الابتكار في عصر التسارع.. ما بعد سكامبر ومستقبل الإبداع

ما حققته الابتكارات فيما يفوق نصف القرن الماضي فاق بكثير ما حققته البشرية في تاريخها الطويل الذي يرجع إلى الوراء آلاف أو ربما عشرات الآلاف من السنين، وما زال المستقبل يحمل بين طياته كثيرًا من المفاجآت التي قد لا تستوعبها عقولنا، حتى إننا يمكن أن نسمي ذلك العصر الذي نعيشه بعصر العلم والابتكار الذي يضع بين أيدينا حصيلة هائلة من الإنجازات العظيمة التي أثرت في حياة الناس، وغيَّرت أنماط أفكارهم، وبات كل شيء يتطور بسرعة مذهلة.

سكامبر وما شابهه.. هل ما زالت أدوات الإبداع القديمة صالحة؟

لقد ظل كثير من الباحثين والتربويين لوقت طويل يعملون بإجراءات «سكامبر Scamper»، وما يوازيه من برامج لتلقين الناشئة والراغبين في طريقة مثلى لتوليد الأفكار «كبرامج الكورت وسي بي إس وتريز... إلخ»، ولكن التغيرات المذهلة شديدة التسارع والتقدم التي حدثت بالعالم في جميع مناحي الحياة بتطبيقاتها وتكنولوجياتها منذ أواخر القرن العشرين وإلى يومنا هذا، عصفت بكل سقوف الإبداع، وأطاحت بطرق الابتكار التقليدية، ولم يعد بمكان قولبة أساليب ومناهج التفكير.

طريقة سكامبر للإبداع

قصور المناهج التقليدية وحتمية التجديد الفكري

ولقد باتت إجراءات البرامج الشبيهة بسكامبر قاصرة جدًا ومحدودة تحديدًا شديد البساطة للانطلاق الفكري الجديد، بل وأصبح ابتكار مسارات وسبل تخليق الأفكار تحتاج إلى نهج أكثر تطورًا وتسارعًا وبراعة، ليواكب عالم اليوم بمظهره وخصائصه الجديدة. ففي تلك اللحظة من القرن الحادي والعشرين لم تعد من قائمة تحد سماء الإبداع، وفي ظل قصور تلك العمليات عن احتواء التطور البشري والبحث الدائب الدائم، جرى تخليق أعداد كبيرة جدًا من القوائم والعمليات التي يمكن إجراؤها على أفكارنا لتوليد أفكار أخرى جديدة «إلى درجة يصعب إحصاؤها ركونًا إلى الدماغ البشرى، إذ باتت تحتاج عقلًا إلكترونيًا عظيم الذاكرة لاستيعابها»، وأصبحت بدائل الفكرة الواحدة لا حصر لها، وفي صباح كل يوم تنجلي طرق ومناهج أكثر إدهاشًا.

ولقد أسهمت ثورة التكنولوجيا والإنترنت في استطراد السبل وتناميها إلى حد خرافى، أو قل هي في انطلاق مستمر إلى ما لا نهاية، وباتت عمليات سكامبر وما يضارعها هي الصندوق الذي يسعى الجميع إلى تحطيمه والثورة عليه، بل والخروج من قالبه الساكن، وباتت لفظة «برة الصندوق Out Of The Box» هي الأكثر تداولًا بين جموع المبدعين والمبتكرين في كل مجال.. إذ لم تعد البرامج العتيقة «مقارنة بوتيرة التسارع المسعورة» قادرة على حصر قدرات المبتدئين -حتى الناشئة منهم- الذين باتت لديهم أفكار مرعبة، وأعاصير فكرية تقلب أدمغتهم على نحو مباغت ومفجع، بل لم يعد أبدًا قادرًا على الوصول إلى حلول جذرية في لحظات العصف الفكري في أثناء الجلسات المصيرية التي لا بد من قرارات حاسمة إثر عقدها.

أزمة الابتكار الحديثة وتشابه المنتجات وفراغ الإبداع

وما أضعف عمليات سكامبر في إحداث تغيير ملحوظ أنه في كثير من الأحيان لم تعد الحاجة إلى تغيير الفكرة الأصلية، بل تغيير أجزاء متناهية التضاؤل منها، وهي أيضًا في تضاؤل مستمر، ما يعطي الأفكار الأساسية تفاصيل شديدة التعقيد والتفصيل، وقابلية للتطوير على نحو لا محدود، وتلك إحدى أكثر الإشكاليات التي باتت تتضاخم نصب أدمغة المبتكرين يومًا بعد يوم، لا سيما بعد ما تناسخت الأفكار والمنتجات على نحو ممسوخ، ولم يعد من فارق ملحوظ نميز به إبداعًا عن آخر.

تطور الأفكار

فعلى سبيل المثال وبالتطبيق على شركات الاتصالات الهاتفية باتت جميعها تقدم الخدمات نفسها دون تميز، ومنذ أعوام والأسواق تضج بشتى المنتجات الغذائية والتكنولوجية والخدمية.. إلخ شديدة التشابه، حتى بات الصراع فيما بينهم فاترًا دون صوت أو حركة، فما زال القمح يُزرع بالطريقة نفسها وكذا الأرز والذرة وجميع المحاصيل الأخرى، ومئات الشركات تنتج المكرونة نفسها والبطاطس المقلية والمياه الغازية وغيرها.. ولا يميزها سوى خصائص بعيدة كل البعد عن جوهر المنتج، مثل مكسبات الطعم أو طريقة التغليف مثلًا، وهذا ما خلق إشكالية جديدة تضاف إلى قائمة إشكاليات الابتكار، فبدلًا من الوصول إلى حلول تخليقية، سقطنا في فخاخ المنتجات غير الصحية والأكثر خطورة على المدى الطويل.

وهنا أتساءل: طالما أنه لا فروق مميزة بين السلع المعروضة، لماذا لا تندمج الشركات المدرجة تحت المنتج نفسه لتكون كيانًا كبيرًا يبحث عن إنتاج أفكار جديدة؟ لا أعرف هل يجوز هذا الإجراء اقتصاديًا أم لا. أو لماذا لا تخصص كل مؤسسة قسمًا للابتكار يبحث عن أفكار غير سائدة؟ لتتمايز السلع في شيء جوهري بدلًا من التنافس في المظهر والتغليف ومكسبات الطعم... إلخ.

الفحص المجهري للأفكار: نهج الابتكار في القرن الحادي والعشرين

وهذا جانب آخر من الأزمة، فعلى الرغم كل هذا التطور وتراكم الأفكار والاحتمالات، ما زلنا نشعر أننا في حاجة إلى طرق وأساليب جديدة للابتكار والتخليق، ما أدى بنا إلى هذا التنامي والتخمة الفكرية التي باتت لا بد منها في ظل الصراع البشري المحموم، لا سيما بعدما أصبحت سرعته تُقاس بأقل من الفيمتو ثانية، فالقرن الحادي والعشرين يختلف جذريًا عن القرن العشرين في كل معطياته ونتائجه، واليوم غير الأمس، بل تلك اللحظة في انطلاق عن اللحظة السالفة.

ولقد أنتج هذا الصراع المحتدم ملايين الإجراءات لتوليد وتخليق الأفكار الجديدة والابتكارية في جميع الحقول والمجالات، حتى إن ثمة خطوة مهمة باتت تحكم جُل هذه الطرق، مضافًا إليها عمليات برامج التدريب شديدة الشبه بسكامبر. وتلك الخطوة هي التي على أساسها نحدد بأي العمليات سنستعين، والمعروفة بـ«فحص الأفكار» قبل الإجراء والتغيير، بل وفحص التغيير نفسه بواسطة الإطلاق أو التطبيق التجريبي كـ«بالونة الاختبار» لتبحث مدى جدوى التغيير لتحقيق الهدف المرجو منه.

وبوضع الأفكار تحت الميكروسكوب «قيد الفحص والتفصيل والتقرير» نتوصل جيدًا إلى أي العمليات نحتاج، وربما أنتج ذلك الفحص عملية تخليق جديدة لا نظير لها، ولم تخطر لنا على بال، وكذا ترشدنا «عملية الفحص» تلك إلى كيفية إحداث هذا التغيير وإعادة التخليق، وسواء أدوات الفحص أو عملية التغيير هما في ذاتهما عمليات أخرى مستقلة، مضافة إلى العمليات الشبيهة بسكامبر السهلة، وما أسفرت عنه قرائح المفكرين «فيما بعد سكامبر» وما يوازيه، وكلها تتشارك في الاعتمال الحادث لكل فكرة، فهي إما أن تولد أفكارًا جديدة من لا شيء أو من أشياء عدة سهلة، أو تعالج أفكارًا موجودة فعلًا وقد تكون شديدة التعقيد، تعاني أدمغة المبدعين كثيرًا لخلق إبداعات بديلة من رحمها.

فحص الأفكار

وأيًا كان الإجراء فهو إما أن يعمل على نحو كلي أو جزئى، أو شديد التجزؤ يصل إلى التشظي الفكري، أو يكاد، وهو إما أن يحافظ على جوهر الفكرة الأصلية وخصائصها، أو يغير من طبيعتها بحيث تلائم الهدف المقصود، زيادة على إمكانية استغلال كل فكرة مولدة أكثر من غرض طبقًا للتغييرات التي نمت عليها.

تطبيقات الابتكار الجديدة من النظرية إلى الممارسة

هنا فندنا بعض عمليات وطرائق التوليد الجديدة التي ابتدعت منذ أواخر القرن العشرين؛ وذلك لاستشعار مسارات تنامي تلك الطرائق، وهو من شأنه أن يولد طرقًا وأساليب أخرى لدى القارئ قد تساعده في مجال عمله أو حتى في حياته الخاصة. ولقد آثرت أن أستعرض تلك العمليات مباشرة في مجال عملي مهندسًا معماريًا ورسامًا، فأنا شخصيًا أستخدم تلك العمليات في معالجة أفكاري وإبداعاتى، حتى باتت برمجة داخلية تنجلي إراديًا أو لا إراديًا مع كل مشروع أعمل عليه، لا سيما في الرسم والتصميم، فأنا أستخدم كل الوسائل والمعالجات التي قد تطرأ على خاطري لتساعدني في حل مشكلات التصاميم، أو لتوليد أفكار جديدة بخصوصها، من شأنها أن تخدم سير العمل والمنتج النهائي، ومن يعملون في أي مجال «يُعد الإبداع تيمته الأساسية»، ويدركون جيدًا كُنه مقصدى، وخاصة من لهم باع طويل في التصميم والابتكار.

وقد يظن بعض الأشخاص أن هذا المنتج للترفيه والتسلية، أو حتى قُصد به شريحة بعينها دون الأخرى، ولكن ما لا يدركه الكثيرون أن موضوعات هذا المقال تمس جميع مناحي الحياة التي ظهرت إلى يومنا هذا، منذ أن وطأ أرضها أول بشري وإلى التو، ما يعني أنني لم أعنِ العاملين في مجالات الرسم والتصميم الهندسي والتشكيلي فقط، فبرؤية أرحب وأكثر شمولية أقصد كل مبدع في مجاله سواء أكان رسامًا أو مهندسًا أو كاتبًا أو رجل علم أو حرفيًا أو زارعًا.. إلخ، فقط أطلق العنان لعقلك وستعي المغزى من مقصدي.

فمنذ الأزل والإنسان يسعى لتطوير وتنمية الأفكار والأشياء التي لها احتكاك مباشر بحياته، ليسهل عليه استخدامها ولتطوير قدرتها، ولكل حالة لبوسها واحتياجاتها، فعلى سبيل المثال نجد أن باب الغرفة يُفتح إلى الداخل للولوج السريع، في حين يُفتح باب السيارة للخارج لتفادي الاصطدام بأثاث السيارة، وهكذا تجري الأمور.

وكان لتلك العمليات الفضل في فهم الإنسان للحكمة العميقة التي تتوارى خلف الأشياء وعلات تخليقها بهذه الهيئة «التي تتبدى عليها». فعلى سبيل المثال لو طبقنا عملية «العكس» من عمليات سكامبر ونمت الأصابع قبل الذراع، لأدركنا حكمة أنه لا بد من خلق الذراع قبل الأصابع، فالرئيس في كل شيء يتصدر الثانوي أو الفرعي منه، بل ويدعمه ويحتويه ويحمل أثقاله.

ومن الأقوال التي نتداولها دومًا «الحاجة أم الاختراع»، تلك الخبرة الحياتية التي اهتدى إليها الإنسان بعد كثير من التجارب والمعاناة، والعمليات التي استعان بها وطبقها على حياته آلاف المرات، وذلك أن الحاجة دائمًا ما تدفع الفرد إلى التفكير قهرًا لإيجاد حلول مجدية، وظل هذا السلوك عشوائيًا غير موجه سنوات مديدة، يتدافع في كل اتجاه أينما وخذته آلام الاحتياج والعوذ، ليقطع أشواطًا إضافية من الفشل والرسوب إلى أن يجد مسلكًا هاديًا، ونهجًا صائبًا رشيدًا للخروج من الأزمة، وذلك أن هذا السلوك لم يكن معززًا بمنهج علمي قويم، مدروس ومجرب، ولكن مع مرور الوقت وابتداع الطرائق والمناهج للتفكير العلمي والتطبيق وفق إستراتيجيات معدة مسبقًا، اهتدي الإنسان للدرب الذي يجب أن يسير فيه، والنهج الذي سيمضي عليه.

فمن عمليات سكامبر والقولبة، والبدء من السهل إلى الصعب، ومن السهل إلى المعقد، ومن المفصل إلى المدمج، أمكنه تحديد نقطة البداية، بل وتغييرها حسب معطياته المتاحة، أو حتى بصرف النظر عن تلك المعطيات، وذلك هو الإبداع. فما كانت الحياة البشرية أن تتطور هذا التطور المذهل لولا القفز على طبيعة الأشياء، فما من عائق يمنع من المضي والانطلاق، ما من إمكانات أو رفاهية أو حتى عجز يمنع الإنسان من التفكير الإبداعي والبحث الدءوب وتحقيق منجزات إضافية.

عملية الإبداع

ولن أنسى أبدًا شديد انبهاري بذوي الهمم «المعاقين»؛ فتجربتهم خير مثال على المثابرة والثبات والاستعاضة عما فقدوه ببدائل أخرى، فمن حُرم البصر لم يركن إلى إعاقته الوحيدة، بل استعاض للمضي بكماله العقلي والجسدي، لتجد أن من حُرم قدمًا وجد ذراعًا ومن حُرم عقلًا وجد جسدًا، وذاك هو صميم الإبداع «القفز على الأشياء»، لا سيما بعدما بات جميعنا في حاجة إلى قدرة ذاتية لخلق وتكوين أفكار خارج الصندوق، لا تعترف بالأطر أو الحدود، ولا تتخذ لاعتمالاتها مساحة عمل بل تتنامى إلى ما لا نهاية.

كيف يربط الإبداع بين الدراسة والعمل والأحلام؟

بمرور سريع على شباب اليوم نجد أنهم الأكثر افتقارًا لحل معضلتهم الأساسية والكبرى «الدراسة - العمل - الأحلام». فليس ثمة رابط بات يجمع بين تلك النقائض، فالمهندس يعمل محاسبًا، والمحامي يعمل مدرسًا، وخريج التربية أو الآداب مثلًا قد تراه يعمل مزارعًا، بينما الأحلام تسير في درب آخر، أقرب للخيال منها إلى الواقع.

ولن أنسى ذلك اليوم حينما اضطررت للعمل في شئون العاملين بأحد مصانع الملابس -نتيجة تأزم أوضاع العمل والوظائف- وطُلب مني مراجعة أوراق العاملين، فوجدت أن من بينهم طبيبًا بيطريًا! لم يعد اليوم أحد يعمل بمجال دراسته إلا من كان له حظ موفور «كما يقولون».

وبنظرة فاحصة من كثب، سنجد أن لوسائل التخليق الإمكانية لربط مجال الدراسة بالعمل والأحلام، وذلك عن طريق تطبيق عمليات التغيير للتقريب بين المسافات الشاسعة بين موضوع الدراسة ومجال العمل الحالي، ولقد تمخضت تلك العمليات عن فكرة جديدة لا نظير لها، قد تكون أنت مبتكرها، حينها ستتوقف لبرهات مشدوهًا، لمَ لمْ تخطر لك من قبل على بال؟! وعن تجربة خاصة، فقد تمكنت من استغلال مجال عملي بالهندسة المعمارية في تطوير أعمالي التشكيلية، وذلك بابتداع أفكار جديدة وملهمة «في كثير من الأحيان»؛ ما ييسر عملية تسويقها، فالمستهلك دومًا في حاجة إلى ما يثير شغفه تجاه المنتج المعروض.

مستقبل الابتكار قدرة ذاتية على التخليق اللامتناهي

لهذا، ولكل ما سبق.. نستشف مدى أهمية إجراءات التخليق ودورها في تطوير حياة الإنسان، وارتباطها الوثيق بالأنشطة الحياتية سواء أردنا أم أبينا، وسواء كان هذا الفعل يصدر عنا إراديًا أو لا إراديًا، وهو ما جعل عمليات برامج التدريب البسيطة «سكامبر وما يوازيه» قاصرة عن مواكبة هذا الحراك البشري السريع؛ ما دعى الإنسان إلى البحث عن وسائل وطرق لإفراز بدائل أخرى للأفكار أكثر ابتكارية وفاعلية. 

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة