الإنسان الذي أصبح شجرة

عند تقاطع الطرقات ومع ازدحام المدينة اللاهية يظهر بعضُ الإنسان في وضح النهار بين أرجُل المارة، يمرُون عليه جيئةً وذهابًا، الصورة من بعيدٍ كأنَّهم يدهسونه، يطؤون كيانه الهش على قارعة الحياة، في حين هو لا يريد أكثر من أن يلتفتَ إليه شخصٌ ما، بمجرد أنْ تراه تهرعُ إليك ملامحه الشاحبة، تمرقُ أمامك مثل سرابٍ لا يترك إلا أوهامًا، إنه بقايا إنسان يتكوّر جوار السور يريد ما يتقوى به، سور يحمل لافتة بلسان الحال: لا أحدَ هناك، يكتب عليه من وقت إلى آخر عنوان عدم المبالاة، هل لا يفهمنا المجتمع تمامًا؟ هل نعجز عن أنْ نفك شفرة الناس؟ هكذا قد يُردد هذا الإنسان!

لكن الآن يوجد شيءٌ ما يتحرك منه، ربما ذراعه التي ترتفع بالكاد، وقد تكون رأسه التي تعلُو، ثم سرعان ما تهبط، إنه شخص يُسائل المارة شيئًا من الطعام أو النقود، ودَّ لو كان السور سور الحياة المترامية حوله، لكنه سُور الفراغ، سور الإحساس بالضياع الذي يحيط به من كل جانب.

 بالفعل رغم الزحام الكثيف من الناس، لكن الشحاذ يشعر بالوحدة، يشعر أنّه ملقى فوق سطح المجتمع إلى العراء مباشرةً، المسافة التي لم تعد تفصله عن العدم، ظهره عارٍ ممد إلى جوار أسوار العدم، نظراته كنظرات غزالة بريئة أمام ذئب شرس، ينتظر فرصة الانقضاض عليه في أي وقت، التشابه بين الشحاذ والغزالة يكاد يصل من أول وهلة إلى الرائي، هي حائرة وهو فاقد المعنى، هي منهكة القوى وهو ضائع، هي تشكو المصير وهو يبتلع الآلام، هي بالكاد تتنفس وهو مملوء بالزفرات الملوثة، هي فاقدة للإحساس، وهو فاقد لمتع الحياة، هي مشرفة على النهاية، وهو يتجرع النهايات يوميًا.

الأسئلة واقفة على أصابع يده عندما يمدها تجاه العابرين، تجاه الريح، لا يستطيع صراخًا، لعلَّ أحدًا يراه أو يسمعه أو يلتفت إليه، فيعطيه شيئًا على الرغْم من أن المارة يشغلون أرجاء المكان كزحام البشر في عادات الأعراس وأعمال الموالد، وفوضى الأسئلة لم تبرح ملامحه العتيقة كبيت فقد أهله وأكل عليه الدهر وشرب.

وقف هذا الشبح فجأة تجاه المصير الذي يترقبه كقناص لا فكاك منه، لا يملك من دنياه سوى صدود الناس، أحدهم يشيح بوجهه جانبًا كي يهش ما يريد قوله من عبارات الشحاذة، يقول في نفسه: آه، آه، الناس، هؤلاء المحيطون بنا، هم كل ما نعرفه من العالم حولنا، نُزعت من قلوبهم الرحمة كما ينزعون ملابسهم صباحًا ومساءً، لكنه يراهم أرقامًا حسابية تنقبض وتنبسط بصعوبة، واحد، اثنان، ثلاث جنيهات، لم يعطه أحدٌ أكثر من ذلك، بات عالمه استجداء النظرات التي لا تظهر استجابة، لم يكن يعلم أنَّ وراء صور المارة المسرعين جواره شيئًا، كل تفاصيل حياته مرتبطة بالرجاء ذاهبة إلى المجهول وإلى الرجاء تؤول.

 قِطعٌ من الوجوه تتناثر حوله يوميًا ثم تختفي، ورغم ذلك لم يمنعه الجلوس أرضًا من تشمم الحركات كأنَّها تنبئ عن القادم، فقد يكون القادم شابًا أو امرأة أو كهلًا فيما يبدو، لكن خبرته في التسول أن يستجدي بشفقةٍ دون مذلة، أكثر من مرة وجد في ذاته بقايا من اعتداد بالنفس، الصغار يعطونه بعضًا مما لديهم، بينما يترصده الكبار بطرفي النظرات الماكرة دون جدوى، ومع ذلك لم يستجدهم إطلاقًا، ربما لا يدرك الناس سببًا لذلك، لماذا الصغار يعطونه؟ هكذا تساءل في نفسه، خرج من فكرةٍ حائرةٍ إلى أخرى، ولم يجد إجابةً سوى العدم الذي يستند إليه في وضح النهار.

أتأمل صورة الشحاذ، يبرز إطالة النظر في وجوه المارة، ليس الأمر أنْ يعطيه أحدهم نقودًا أو قطعة خبز، لكن هل يوجد متسع من حياة تحتويه؟ شعر أن الأسوار تضيق عن أنفاسه، كل يوم مع جلوسه في هذه المنطقة من المدينة اللاهية يترقبه السور حتى يسند ظهره إليه، هذا مجمل أمله المؤجل، أيتها الأسوار أين أنت من البعض الآخر الذي لا يأبه بنا؟

بدا الشحاذُ في جلوسه كأبي الهول شاهدًا على مرور البشر، مشاعره التي تحدد وجُوه الناس التصقت بالأرض، ألقيت نظراته كبذور فأنبتت براعم، فجأة ظل يجلس في المكان نفسه ليستجدي المارة، نبتت له جذور في باطن التربة الواقف عليها، لم يعد يتحرك، غدا كائنًا عجيبًا كالأشجار التي تتأصل بجذورها الغائرة، والجذور ممتدة في الأرض، نما فظهرت الأوراق والساق والأغصان، والناس قد لا يعطونه ما يريد إلاَّ أنه يحقق لهم ما يريدون، ما أجمل الإنسان عندما يتحول إلى شجرة على الرغم من الحرمان، أصبح من معالم المكان، غدا علامة استفهامٍ لا إجابة لها، هل تكرار الجلوس يجعل الشحاذ شيئًا غير عادي؟ 

 عندما يصبح الإنسان شجرةً، يجلب طيورًا وبعض الحيوانات للوقوف عليها ولتحتمي من عبث الأطفال وملاحقتهم، ليس هذا فقط، بل يأخذ الناس في تسلق الأغصان ويأكلون من الثمار ويتظللون بالظلال الناتجة عن مسار الشمس يوميًا، ماذا لو عرف الناسُ أن أصل الشجرة هو الشحاذ؟ غدا هو المثمر وهم راحلون، غدا هو الوارف بظلاله في حين هم المحصورون بنزعات البخل والتقتير، الأشجار إذا ماتت تموت واقفة، الأشجار لا تتلاشى، إنما تترك بذورًا للمستقبل، الأشجار تعطي لا تأخذ.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.