الأنف الرقمي المفقود.. هل يمكن نقل الروائح رقميًا؟

في زمنٍ مضى، لو أخبرتَ أحدهم أنك سترسل صورة بالكهرباء، لضحك حتى انقطع نفسه. ولو قلتَ إن صوتك سيسافر عبر السماء ليصل إلى صديقك في أقصى الأرض، لربما اتُّهمت بالجنون أو السحر. لكنك الآن، وبضغطة زر، تفعلها كل يوم.

نحن نعيش داخل معجزة يومية لا نلاحظها. نرسل صورًا، نبعث مقاطع فيديو، ندوِّن مشاعرنا بالكلمات، وننقل أصواتنا بدقة مرعبة. لقد قمنا -نوعًا ما- برقمنة حاستي البصر والسمع. لكن لماذا لم نصل بعد إلى إرسال الروائح؟ لماذا لا تزال الرائحة سيدة الغياب؟ لماذا لم نتمكن بعد من «رقمنة الروائح»؟!

هل يمكن أن نشمَّ رسالة قادمة من شخص نحبه؟ أو نستعيد رائحة البحر، أو قهوة جدَّتنا، أو حتى العطر الذي كان على كتف من فقدناهم؟ هل هذا مستحيل؟ أم أننا ببساطة لم نكتشف طريقة لفعل ذلك بعد؟

الأنف الرقمي المفقود.. هل يمكن إرسال الروائح؟

حين نفكر في نقل المعلومات رقميًا، فإن أول ما يتبادر إلى الأذهان هو الصورة والصوت. هاتان الحاستان كانتا الأسهل في التحويل إلى إشارات رقمية قابلة للإرسال. لكن الرائحة؟ آه، إنها قصة مختلفة تمامًا.

الرائحة ليست مجرد شعور، بل مزيج كيميائي معقد. حين تشمُّ وردة، فأنت في الحقيقة تستنشق جزيئات صغيرة من مادتها، تدخل أنفك، وتتفاعل مع مستقبلات في الغشاء المخاطي، فترسل إشارات إلى الدماغ تُترجم إلى «رائحة».

كيف نشم الروائح؟

بمعنى آخر: لا يمكننا إرسال الرائحة رقميًا كما نرسل صورة أو صوتًا، لأنها ليست إشارات ضوئية أو صوتية فحسب، بل جزيئات مادية. وهذه الجزيئات لا يمكن ضغطها في ملف MP3 أو JPEG!

هل حاول العلماء إرسال الروائح رقميًا؟

نعم… وهذا هو الجزء المدهش.

في عام 2022، كشفت شركة ناشئة تُدعى OVR Technology عن جهاز يُسمى «ION»، يزعم أنه قادر على بث الروائح في أثناء تجربة الواقع الافتراضي، وذلك عبر خراطيش صغيرة تنبعث منها روائح معينة تتطابق مع الأحداث المعروضة في الواقع الرقمي.

وفي كوريا، اخترعت جامعة سيول قناعًا يُسمى «FeelReal»، يمكن تثبيته على نظارات الواقع الافتراضي ويحتوي على خزائن صغيرة تطلق روائح مطابقة للمشهد الذي تراه.

وفي عام 2015، أجرت مجموعة بحثية من جامعة ماليزيا UITM تجارب على نموذج أولي يسمى «Digital Scent Technology»، يحاول خلق رائحة عبر إرسال إشارات كهربائية محفِّزة للدماغ البشري، لكنها كانت محدودة وغير دقيقة.

وظهرت مشاريع مثل FeelReal Mask، وهي قناع يتصل بنظارات الواقع الافتراضي ويُطلق روائح مبرمجة لتعزيز التجربة الغامرة، لكن لم تكن دقيقة كفاية لتنجح تجاريًا.

هل سنشمُّ رسائل واتساب يومًا ما؟

فكِّر في هذا السؤال الذي يبحث عنه الناس على Google:

«هل يمكن إرسال رائحة عبر الإنترنت؟».

أو: «هل توجد تقنية لنقل الروائح؟».

الإجابة؟ ليس بعد، لكن هناك من يجرِّب، ويخسر، ثم يعيد المحاولة.

علماء الأعصاب، والمبرمجون، حتى شركات العطور الفاخرة… الجميع يحاول. التحدي ليس فقط في إرسال الرائحة، بل في تحديد ما الرائحة أصلًا، وكيف نعيد تكوينها عند الطرف الآخر بدقة!

تخيَّل أن صديقك يرسل لك رائحة الليمون. يجب على هاتفك أن يفهم أولًا ما «كودات» رائحة الليمون، ثم يُطلق جزيئات مطابقة تمامًا لها… لا قريبة منها فقط.

هل سنشم روائح رسائل الواتساب؟

هل نحتاج إذًا إلى شريحة أنف رقمية في هواتفنا؟ جهاز بحجم كبسولة ينتج آلاف الروائح حسب الأوامر الرقمية؟ ربما. وربما سيأتي اليوم الذي يتضمَّن فيه هاتفك ميزة «الشمُّ الذكي.. SmartScent».

يبدو الأمر بسيطًا، لكنه معقد جدًا. فلكل رائحة خريطة كيميائية، ولكل أنف «بصمة» خاصة، ما يعني أن إدراك الرائحة يختلف من شخص لآخر. الأمر لا يشبه الصوت أو الصورة. إنها تجربة شخصية جدًا.

الروائح والذكريات: هل للأنف ذاكرة؟

لا يمكن الحديث عن الرائحة دون استدعاء الذاكرة. عطرٌ معين كفيل بإغراقك في حنين عمره عشرات السنين. رائحة بيت طفولتك، طعام الجدة، عطر الحبيب الغائب... كلها مُشفَّرات عاطفية تُخزن في الذاكرة الشمِّية العميقة في الدماغ، تحديدًا في منطقة الحُصين والجهاز الحوفي المسؤول عن العواطف.

لهذا، يرى بعض الباحثين أن إدخال الرائحة في الذكاء الاصطناعي لن يضيف ترفًا، بل بُعدًا عاطفيًا حقيقيًا. وربما في المستقبل، ستُستخدم الروائح لعلاج الاضطرابات النفسية أو حتى لتعليم الأطفال، كما تُستخدم اليوم الموسيقى والألوان.

وفي دراسة نُشرت عام 2020 في مجلة Frontiers in Neuroscience، لاحظ الباحثون أن رائحة اللافندر وحدها كانت كفيلة بتقليل علامات القلق لدى مرضى اضطراب ما بعد الصدمة. فهل يكون العلاج مستقبلًا بعلبة روائح؟

ولكن، هل يمكن التلاعب بنا عبر الرائحة؟

في المقابل، يثير هذا التطور أسئلة أخلاقية: هل يمكن لمتجر أن يرسل لك رائحة القهوة لتدفعك للشراء؟ أو تُستخدم الروائح الرقمية في الدعاية السياسية؟ وماذا عن الخصوصية؟ هل تُخزِّن «بصمتك الشمِّية» كما تُخزن بصمة إصبعك؟

استخدامات الروائح الرقمية

ويجب أن تتأكد أولًا من مرسل الرائحة قبل فتحها واستنشاقها، فلا تدري أي رائحة قد تكون أُرسلت! ربما تكون رائحة مخدر ما، أو رائحة كريهة قد أرسلها لك صديقك على سبيل المقلب!

إن رقمنة الرائحة تفتح الباب لاستخدامات علاجية وإنسانية مدهشة، لكنها أيضًا قد تصبح أداة تلاعب خفية. وما بين علاج الحنين وتوجيه السلوك، يتأرجح مصير أنف المستقبل.

وماذا عن اللمس والتذوُّق؟ هل يتم إرسالهما أيضًا؟

إذا كنا على أعتاب إرسال الرائحة، فهل سيأتي يوم نرسل فيه «ملمس» قبلة؟ أو «طعم» قهوة الصباح؟

نقل الطعم والإحساس رقميًا

الحقيقة أن هذه المشروعات بدأت فعلًا. تجربة Taste the TV اليابانية تُقدم نكهات مُشفَّرة على الشاشة. وفي مشروعات أخرى، تُطوَّر قمصان ذكية تنقل الإحساس باللمس عبر الإنترنت، وتُستخدم فعلًا في التعليم الطبي أو محاكاة المشاعر.

وفي جامعة ستانفورد، أُعلن في 2021 عن مشروع يُسمى TouchBase، يتيح للمستخدمين الإحساس بالضغط والحرارة عن بعد، باستخدام ألياف صناعية حساسة متصلة بالجلد. وكأنك تلمس شخصًا عبر الأثير.

نقل الحواس الخمس إلكترونيًا قريب

إننا نقترب شيئًا فشيئًا من رقمنة الجسد بالكامل. لكن الطريق ما يزال طويلًا، خصوصًا لأن الحواس ليست مجرد إشارات كهربائية، بل انفعالات، وذكريات، وأحاسيس يصعب ضغطها إلى «ملف ZIP».

نقل الحواس الخمس إلكترونيًا

هل المستقبل «قابل للشم»؟

السؤال لم يعد «هل يمكن؟»، بل «متى؟».

كل ما نحتاج إليه هو كسر الشيفرة: كيف نعيد إنتاج الرائحة دون المادة الأصلية؟!

كما اعتدنا تقنيات لم نكن نحلم بها -من بث حي بدقة 4K إلى الواقع المعزز- ستصبح أجهزة إطلاق الروائح جزءًا من حياتنا اليومية، ربما خلال أقل من عقد.

سيصبح بإمكانك إرسال رسالة لصديقك تقول: «هذا هو عطر الليلة الماضية».

سيُرفق إعلان بيتزا برائحة فعلية تجعلك تطلبها فورًا.

وستكون قادرًا على استنشاق رائحة كتاب من القرن السابع عشر دون مغادرة بيتك.

مستقبلٌ قابل للشم، وربما للَّمس، وربما… للتذوُّق..

وإن أرسل لك أحدهم رسالة فارغة تمامًا... لكنَّك شممت فيها رائحة البحر، أو عطر النعناع فاعلم أنه يقول لك شيئًا لا يمكن قوله بالكلمات، ولا بالصورة، ولا حتى بالصوت. شيءٌ لا يُكتب، بل يُشمُّ.

خاتمة: الرائحة، الحاسة التي تنتظر اللحاق بالثورة الرقمية

في زمن كانت فيه الصور أصواتًا خفية، والأصوات ذكريات صامتة… نجح الإنسان في جعلها تسافر.

فهل ننجح في جعل الذكرى تُشم؟ هل نتمكَّن يومًا من إرسال عطر امرأة أحببناها… لمن لم يعرفها؟

هل نعيد الروائح من الذاكرة إلى الأنف؟ من العاطفة إلى المادة؟

ربما… وهذا الـ «ربما» وحده كافٍ ليجعلنا نستمر في المحاولة.

المصادر

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.