في عالم تتقاطع فيه الثقافات وتتمازج الهويات، نتساءل سؤالًا عميقًا: ما الهوية الأمريكية اليوم؟ بواسطة قصة صغيرة داخل حافلة متوقفة في طريق تكساس، تتحول الرحلة إلى مرآة تكشف عن تعدد الأصوات والتجارب التي تكوِّن نسيج أمريكا المعاصرة. أربعة ركاب لا يجمعهم سوى الصدفة، يجدون أنفسهم في حوار يعيد تعريف معنى الانتماء والاختلاف، ويحوِّل العطل الميكانيكي إلى لحظة وعي إنساني.
أزيز المحرك وصمت الطريق
كانت السماء في مساء تكساس مشبعة بالغيوم، كأنها تخفي سرًا كبيرًا. الحافلة المتوجهة من ألباكركي إلى هيوستن تمخر طريقها السريع، في حين تلتصق قطرات المطر بزجاج النوافذ. فجأة، تفوَّه المحرك بصرخة قصيرة، ثم صمت... صمتٌ جعل الركاب يتبادلون النظرات القلقة قبل أن تتباطأ العجلات وتستقر الحافلة على هامش الطريق. خرج الجميع، بحثًا عن شبكة هاتف أو كوب قهوة أو ذريعة للهروب من الرطوبة، وبقي في داخل الحافلة أربعة فقط، أربعة أمريكيين لا يجمعهم شيء سوى المقعد المطلي باللون الأزرق الداكن وحكاية أكبر منهم جميعًا.
هذا اللقاء العابر تحوَّل، خلال الليل، إلى مرآة واسعة للاسم الذي نحمله جميعًا: «الأمريكي». فمن يكون اليوم، حقًا، هذا الأمريكي؟
أبطال الحافلة الأربعة
* نوا: ابن شعب هوبي، بملامح صلبة وعينين تحملان إرث الصحراء. يعمل في مركز ثقافي داخل محمية في أريزونا، ويجمع القصص القديمة ليحكيها للأطفال.
* ليلى: مديرة تسويق من سياتل. شعرها الغامق قصير، وعيناها تلمعان بثقة من يعرف معنى أن تكون من أصول تايوانية أمريكية وسط بيئة تنافسية.
* إيزابيل: أستاذة تاريخ من ميامي، ذات جذور بيروفية، تحمل دراسات عن الحضارات اللاتينية وتشبه في حديثها نهرًا غنيًا بالزخم.
* سامي: مهندس برمجيات من أتلانتا، نشأ في بيت غاني الأصول. يحمل حاسوبه المحمول أينما ذهب، لكنه في حقيبته اليوم احتفظ بطبل صغير وكتاب عن الموسيقى الإفريقية المعاصرة.
هؤلاء الأربعة جلسوا على المقاعد الخلفية، تحيط بهم رائحة البلاستيك وسكون غير مألوف. لم يكن لديهم خيار سوى الانتظار... وأحيانًا، الانتظار يصنع رواية.
شرارة الحديث
بدأت القصة بجملة بسيطة. نوا، الذي راقب المطر يتساقط كخيوط فضية، قال: «من الغريب أن تُعطِّلنا آلة صنعها بشر من قارات مختلفة، بينما نحن هنا ننتظر بعجز». التقط سامي طرف الخيط: «هذه الآلة أمريكية تمامًا... مثلنا. ربما تعطلت لكي نُصلح شيئًا آخر غير المحرك». ضحكوا، ثم تكشفت الحكاية.
سألتهم ليلى، وكأنها تقود جلسة عصف ذهني: «من الأمريكي اليوم؟ هل نبدو نحن الأربعة إجابة؟» كان السؤال أكبر من سماء تلك الليلة. والأكبر أن كل واحد منهم حمل قارة كاملة داخله.
قصص تتنفس
أخذت إيزابيل المبادرة، قائلةً: «أنا أمريكية لأنني أدرِّس تاريخ البلاد، وأعشق قصص الاستقلال، لكنني أحتفل بفينيا نويفا في كل يناير مع عائلتي. طهو الأم، وهي تضع صلصة الأجي على الديك الرومي، هو ما يجعل الشعور مزدوجًا: أنا هنا وهناك في اللحظة نفسِها».
نوا أضاف بنبرة هادئة: «جدتي تقول إننا عندما نحكي قصة، نحفظ هوية قريتنا. أنا أحافظ على لغة الهوبي، أعمل في متحف ثقافي، أدرِّس أطفالًا لاتينيين وسودًا وبيضًا عن الحياة قبل قيام الولايات المتحدة. هل هناك شيء أكثر أمريكية من سرد القصص المتعددة؟».
ابتسم سامي، وأخرج الطبل الصغير. ضرب عليه نغمة خافتة وقال: «في يوم الاستقلال، تجتمع عائلتي في حديقة أتلانتا. نطبخ الفوفو، نسمع موسيقى الهيب هوب، ونقرع الطبول الإفريقية. حينها أرى الأطفال الصغار يرقصون بحرية ولا يسألون عن معنى أن تكون أمريكيًا؛ هم فقط يعيشونه».
ليلى، التي كانت تستمع بانتباه حاد، شاركت قصة طفولتها: «في عيد الشكر، كنَّا نضع النودلز الحارة بجانب الديك. جيراننا كانوا يتفاجأون، لكنني كنت أشعر أن الطبقين معًا يمتلكان معنى خاصًا: دمج لا يمحو الأصل، بل يضيف إليه. أذكر أنني في الجامعة تعرضت لسؤال عفوي لكنه عالق في ذاكرتي: «من أين أنتِ حقًا؟» يومها فهمت أن الرحلة ليست لإقناع الآخرين، بل لأكون أنا، وأن أسمح لأمريكا بأن تتسع للألوان كلها».
القوة المخفية في التنوع
في تلك الحافلة، كان الحديث يُضيء زوايا الهوية. الجميع يعرف أن الولايات المتحدة دولة متنوعة، لكن أن ترى التنوع يتحدث عبر أشخاص حقيقيين، فهذا أمر آخر. قال سامي مازحًا: «أشعر أن المحرك تعطَّل لأن قدر التنوع فينا أثقل من قدرة الديزل العادي». ضحكوا، لكن كلامه حمل حقيقة: هذا التنوع هو الوقود الحقيقي.
تظهر الدراسات أن الولايات المتحدة أصبحت في العقود الأخيرة مختبرًا عالميًّا للثقافات، مطاعم التاكو أصبحت صورة يومية في تكساس، عربات الفلافل جزءًا من روح بروكلين، والشاي الفقاعي يُباع بجوار القهوة السوداء في كل المدن الكبرى. وفي عالم الترفيه، أصبح من الطبيعي أن يشاهد الأمريكيون أفلامًا مثل «بلاك بانثر» أو «إفريثينغ إيفريوير أول أت ونس» ويجدوا أنفسهم في قصص الأبطال ذوي الخلفيات المتعددة.
لكن جذور التعددية تمتد أعمق في الحياة اليومية: سكَّان الولايات المتحدة يتحدثون أكثر من 350 لغة في المنازل، بحسب بيانات مكتب الإحصاء. أطفال يدرسون بلغات لأجدادهم وأخرى جديدة، يحفظون وصفات أمهاتهم ويبتكرونها من جديد، ويصنعون هوية مركَّبة لا يمكن تلخيصها في خانة واحدة.
الظلال التي لا تُهمل
مع تزايد دفء الحوار، انفتح الباب أمام القصص المؤلمة أيضًا. قالت ليلى بصوت منخفض: «أحيانًا، أشعر أنني مطالبة بتمثيل آسيا كلها. في اجتماعات العمل، يسألني زملاء عن رأيي في كل ما يتعلق بـ (الثقافة الآسيوية)، كأن القارة كلها يمكن أن تتلخص في صوتي». ردَّ سامي: «حدث معي الشيء نفسه عندما طُلب مني قيادة مبادرة التنوع في شركتي، فقط لأنني الرجل الأسود في الفريق. شعرت بالامتنان لأنني أريد فعلًا التغيير، لكنني تمنَّيت أن يكون القرار نابعًا من قناعة لا من شرط شكلي».
أما نوا، فذكَّرهم بأن وجوده هنا امتداد لنضال طويل: «أحيانًا أشعر أنني أشرح للناس أن هذه الأرض كانت لنا قبل أن تكون للولايات المتحدة. التاريخ الذي يدرَّس في المدارس يمر سريعًا على آلامنا، وكأن جروحنا محض هامش».
هزت إيزابيل رأسها وقالت: «الأمر نفسه يحدث مع تاريخ أمريكا اللاتينية. الناس يروننا من خلال الصور النمطية فقط، ويتجاهلون أننا أسهمنا في بناء المدن والموسيقى والفنون منذ قرون».
في تلك اللحظة، لم تكن الحافلة مركبة متوقفة فحسب، بل فضاء اعتراف. أدرك الأربعة أن التنوع ليس بطاقة مجانية للجنة، بل مسارًا مليئًا بالحارات المتعرجة. التحديات قائمة، من التمييز في العمل إلى النقص في تمثيل بعض المجتمعات، لكنها لا تلغي القوة التي يمتلكها هذا التعدد حين يكون واعيًا بقيمته.
التنوع قصة تكتب نفسها
بعد جدل طويل، غيَّر سامي الموضوع بسؤال مفاجئ: «ما الطبق الذي يُعرِّف أمريكيتكم؟» ضحك الجميع، لأنها طريقة سامي في إعادة الحياة للحوار. أجابت إيزابيل: «الكوسا المحشوة بصلصة الأمازون».
ليلى قالت: «النودلز على الطريقة التايوانية مع مخلل أمريكي حار». نوا فضَّل خبز البويتشي التقليدي مع العسل، بينما اختصر سامي كلامه: «BBQ غاني، يا جماعة!»
هذا المزاح جعلهم يتذكرون أن الهوية ليست عبئًا ثقيلًا فقط؛ هي مساحة للفرح، للموسيقى، للروائح التي تختلط وتؤلف لحنًا جديدًا. هنا تحديدًا تتضح صورة الأمريكي اليوم: إنسان يحمل تاريخًا متعددًا ولا يخجل من موتيفة التنوع المتشابكة، يؤمن بأن الوطن مساحة قابلة لإعادة الرسم باستمرار.
لحظة الانطلاق
مرت ساعات، وتوقفت زخات المطر. خارج الحافلة، حل الليل ببطانية من النجوم الخافتة، وداخلها تكاثرت القصص. عندما وصلت أخيرًا حافلة الإنقاذ، لم يكن الأربعة هم الأشخاص أنفسهم الذين التقوا قبل ساعات. تودَّعوا وكأنهم أصدقاء قدامى، مع تبادل الأرقام ووعود بلقاءات أخرى لا يعرفون إن كانت ستحدث.
قبل أن يغادروا، قال نوا بصوت يحمل شيئًا من السحر: «ليلة اليوم تُذكرني بأن الهوية ليست كلمة مفردة. إنها حكاية تُحكى مشتركة، من فمٍ إلى آخر، حتى تصير أغنية لا يملك واحد منا لحنها وحده». وافقته ليلى وأضافت مع ابتسامة: «الجميل أننا لا نحتاج إلى أجوبة نهائية. يكفي أن نعرف أن السؤال مفتوح، وأننا نكتبه معًا..».
الحافلة التي اختبرت معنى أمريكا
من الأمريكي اليوم؟ رُبما هو هذا الشخص الذي جلس في حافلة صغيرة متعطلة، شارك قصصه، استمع إلى تجارب الآخرين، واعترف بأن الوطن ليس خطًا مستقيمًا بل فسيفساء تحيا بالحوار والاختلاف. الأمريكي هو من يرى جذوره قوة لا خندقًا، ومن يدرك أن التعددية ليست شعارًا على لوحة إعلانية، بل ممارسة يومية، تتجسد في اجتماع الأعياد، وفي الكلمات التي نتبادلها، وفي الجسور التي نبنيها عبر الفجوات.
تلك الليلة في أي مكان من تكساس ليست حادثة طريق فقط؛ إنها صورة مكبرة لأمريكا التي تتحرك دائمًا بين التعطل والانطلاق، بين التوتر والوئام. وما دام هناك أشخاص مستعدون للجلوس معًا والتعلم من اختلافهم، فإن الحافلة ستعود إلى المسار، والرحلة ستظل مفتوحة على احتمالات لا تنتهي في نهاية الأمر، ليس السؤال «من الأمريكي؟» بل «كيف نصنع أمريكا بأعيننا المتعددة؟» والجواب، كما أثبت أبطال الحافلة الأربعة، يأتي دائمًا من القصص التي نتعلم من مشاركتها.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.