كروية الأرض بين الفلسفة والدين والعلم

لقد استولى شكل الأرض على شق كبير من تدبر الفلاسفة منذ القدم، بل إن العلماء واجهوا صعوبة في تحديد شكل الأرض الهندسي. وكانت تعتقد الأساطير العتيقة والحضارات التليدة أن الأرض عبارة عن قرص مسطح دائري. سطحية الأرض بدت جلية في الفلسفة اليونانية القديمة (في عصر ديموقريطوس وطاليس)، كما أن الإسرائيليات وصفت الكون بهذا الشكل. وفي العصر الحديث، عاد هذا الاعتقاد ليظهر بقوة.

هذا المقال يستكشف تطور النظرة لشكل الأرض وحركتها، مستعرضاً الأدلة العلمية والنصوص القرآنية التي تؤكد حقيقة كروية الأرض وتُفند مزاعم نظرية الأرض المسطحة.

المسار التاريخي: من السطحية إلى الكروية

لكن مع ظهور الفيلسوف اليوناني وعالم الرياضيات فيثاغورس (Pythagoras) انعطفت الأمور، وقذف أول سهم في قلب نظرية الأرض المسطحة، فبناءً على براهين رياضية أثبت كروية الأرض. اقتدى أثره الفيلسوف اليوناني المثالي أفلاطون وتلميذه الواقعي أرسطو، وتلاهم العلماء تلو الآخرين حتى استترت الأرض المسطحة خلف الستار لسنوات طويلة.

فيثاغورس وكروية الأرض

بعد ذلك تم إنعاش التسطيح من جديد في أمريكا، ويستند هذه المرة إلى أفكار المخترع البريطاني صموئيل بيرلي روبوثام في القرن 19 الذي استمدها من آيات العهد الجديد، ليؤسس لاحقًا جمعية الأرض المسطحة التي تدعم النموذج القديم لشكل الأرض.

الدوافع النفسية وراء تبني الخرافات العلمية

ركض خلف مؤخرة هذا التسطيح فئة كبيرة من رجال الدين الإسلامي وعلمائهم في القرن 21، زاعمين أننا نعيش في مؤامرة عمرها مئات السنين. لا يستوعب هؤلاء السطحيون الإسلاميون والغربيون أن هناك كونًا نصف قطره 46 مليار سنة ضوئية، لأنهم -في تحليلي- يتيهون ويضيعون فيه؛ لذلك يندفعون إلى النموذج السهل والصغير والضيق، لأن عقولهم ضيقة ولا تقبل هذا الاتساع.

لقد قال مؤخرًا عالم الفلك البريطاني ستيوارت كلارك: «إن البشر يحبون القصص لأنها تمنح معنى لحياتهم وعالمهم، فالأمور العلمية معقدة بالنسبة للعامة وللإنسان البسيط، الأمر الذي يولد ميلًا لديهم إلى رفض الواقع والعلم، والركون فقط إلى الخرافات المريحة (Comforting Myths)، لأنها تشعرهم بالسعادة بأنهم يعرفون ما الذي يجري من حولهم، وهذا هو سبب الهوس بالأرض المسطحة».

عالم الفلك ستيوارت كلارك

القرآن يؤكد الاتساع والحركة (Cosmology)

تبرز النصوص القرآنية لتؤكد حقائق كونية لم يدركها العلم إلا حديثاً:

اتساع الكون (Expanding Universe)

قال تعالى: ﴿وَالسمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنا لَمُوسِعُونَ﴾ (الآية رقم 47 من سورة الذاريات).

التفسير اللغوي: ظاهرٌ في هذه الآية الكريمة أن الكون في اتساع! ولقد عبر الله تعالى عن هذا الاتساع باسم الفاعل «مُوسِع»، وهو ما يدل على استمرار عملية الاتساع في الماضي والحال والمستقبل، وهذا الاتساع في الكون حقيقة لم يتمكن الإنسان من إدراكها إلا في الثلث الأول من القرن العشرين، ما يؤكد دقة الإشارة القرآنية لعلم الكون.

حركة الأرض والأفلاك (Celestial Motion)

  • حركة الأفلاك: قال تعالى: ﴿وَهُوَ الذِي خَلَقَ الليْلَ وَالنَّهَارَ وَالشمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ (الآية رقم 33 من سورة الأنبياء). وتعده سبحانه وتعالى بكلمة «يسبحون» له دلالة على الحركة، والسباحة لا تكون إلا في سائل، في إشارة إلى طبيعة مادة الفضاء، كما يذهب إليه بعض الباحثين في الفيزياء الكونية.

  • حركة الأرض: قال تعالى: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ هَامِدَةً وَهِيَ تَمُر مَر السحَابِ﴾ (الآية رقم 88 من سورة النمل). وهذا يؤكد أن الأرض تتحرك، وفي موضع آخر قال تعالى: ﴿وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ﴾ (الآية رقم 15 من سورة النحل)، والميدان (الاضطراب/الحركة) لا يأتي من جاثم وساكن! ما يدحض فكرة ثبات الأرض التي أفتى بها بعض رجال الدين، مثل الشيخ عبد العزيز بن باز.

حركة الأفلاك من القرآن

الإثبات البصري لشكل الأرض البيضاوي

لقد وثق رواد الفضاء والمسابير الفضائية شكل الأرض بصور واضحة من مسافات بعيدة، وكانت أقرب إلى الشكل البيضاوي المفلطح منها إلى الكروية التامة وهو مجال تخصص علم شكل الأرض.

الدليل البصري من الأفق: ثمة سبل للحتقق من بيضاوية الأرض بالعين المجردة، فإذا ذهبت إلى البحر ونظرت إلى السفن في أثناء مغادرتها، فستلمح أنها تتوارى جزءًا فجزءًا عند الأفق، وكأن السماء ملتصقة بالبحر وهي ظاهرة ناتجة عن انحناء سطح الأرض.

إن البراهين كثيرة على كروية الأرض وحركتها، سواء كانت مستمدة من علم الجاذبية والفيزياء، أو من الإشارات الدقيقة في القرآن الكريم عن الاتساع والحركة. إن رفض هذه الحقائق هو في جوهره رفض للجهد المعرفي والعلمي الذي أمر به الله بقوله: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ﴾ (الآية رقم 20 من سورة العنكبوت). يبدو أن التحدي الحقيقي ليس في إثبات شكل الأرض، بل في إثبات أن عقولنا ليست هي الثابتة والمسطحة!

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.