الآلة الكاتبة

"حسناً ياصديقتي، نحن بمفردنا الآن، لا يوجد غيرنا أنا وأنتِ"

قال مخاطباً آلته الكاتبة، كان ينتظر هذا التوقيت من اليوم، عندما يهبط الظلام جارًا النعاس معه إلى أعين الناس، يضيء غرفته بمصباح زيتي وعقله بفنجان قهوة، ينتظر لذة لمسها، عندما يضع أصابعه على حروفها حتى يتدفق الشعور من قلبه لها، هي الشيء الوحيد القادر على ترجمة حركة أصابعه، مصدرة صوتها المميز معلنة به استجابتها لضغطات يديه، ما أن يبدأ في كتابة أول حرف حتى تهطل الكلمات متدافعة تبني نصاً، إن لمح كاتبنا عشوائية كلماته، أو خروج إحداهن عن السياق، أنهى مصير الورقة إلى القمامة، ليبدأ اتصال جديد بآلته، يتشاجر معها عندما ينقطع حبل أفكاره، ويبتسم لها كلما أنهي ورقة بسلام دون خطأ يكدر صفوه. 

"هيا، لمَ تفعلين هذا بي الآن لم!" صارخاً بها معاتباً إياها عند إنتهاء ورقتها قبل إنتهاء جملته، قد يجلس قبالتها ساعات وتنضب عشرات فناجين القهوة، يخيل إلى الناظر إليهما أنها سحرته، تملكته لتملي هي عليه ما يفعل لا كأنما هو صاحب الحروف، في كل ليلة كانت تناديه، تغريه بحروفها ليأتي وينظمها لها، كانت تفهمه، أكثر من يفهمه، تفهم حزنه من ثقل يديه على الحروف، وتفهم سعادته في سرعة كتابته، وملله عندما يراقبها، كانت تبوح بكل ما عجز عن البوح به، كانت صديقته ولسانه الذي يخاطب به العالم لم يدرك في أي من خلواته بها أنه سيولد منهما إرث أبدي، مهما سارت عقارب الساعة وإصفرّ الورق وتحلل، بقي محدثاً نفس الأثر في مختلف الأنفس، مات هو، تحطمت آلته الكاتبة، لكن بقي مولودهما.. النص، خلد ليروي لنا عن تلك الليلة، الليلة التي اختلى فيها كاتبنا مع كاتبته.    

ليجول سؤال في عقل القاريء كما يفعل الخيّال في إسطبله، كم من الليالِ الملحمية خاضها الرجال أمام سحر الآلة الكاتبة ليصنعوا لنا مئات التحف الفنية متمثلة في جمل! 

مات هو، تحطمت آلته الكاتبة، لكن بقى مولودهما.. النص، خلد ليروي لنا عن تلك الليلة، الليلة التي اختلى فيها كاتبنا مع كاتبته. 

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة