اغتيال الرئيس الأمريكي جون كينيدي في نوفمبر 1963 مثَّل نقطة تحول في تاريخ الولايات المتحدة، إذ انتقل بالبلاد من "عصر البراءة" إلى "عهد العنف والتغيير"، وجعل من كينيدي أسطورة بعد مقتله، فهو كان شابًا وسيمًا، ذكيًّا، وجذابًا، وتمتع بقدرة على تسويق سياساته بأسلوب مبتكر.
وعلى الرغم من أنه لم يكن متفوقًا في دراسته، فإن كينيدي كان مثقفًا وموهوبًا، إذ اهتم بالقراءة والسِّيَر الذاتية، وسعى منذ شبابه إلى فهم التاريخ والسياسة بتجاربه الشخصية.
نبذة عن حياته الخاصة
وُلد جون في 29 مايو 1917 في ماساتشوستس، وهو الابن الثاني لعائلة كينيدي التي كان لها تأثير سياسي قوي في ولاية ماساتشوستس. كان والده، جوزيف كينيدي، رجل أعمال وسياسيًّا، وكان له دور كبير في تشكيل مسيرة أبنائه السياسية، وقد تربَّى كينيدي في بيئة مرفهة، إذ كان يعيش في بيوت فاخرة في مناطق مثل كيب كود وفلوريدا.
خلال مراحل دراسته، كان كينيدي طالبًا كسولًا ولم يتفوق أكاديميًّا، لكنه كان يحب التاريخ وقرأ كثيرًا من الكتب التي كوَّنت تفكيره السياسي، وإلى جانب أدائه الدراسي المتواضع لم تكن حياة كينيدي خالية من التحديات الصحية، فقد عانى أمراضًا مزمنة في طفولته مثل الحمى القرمزية والربو، ما جعل طفولته صعبة، لكن هذه المعاناة عززت من عزيمته.
أصبح كينيدي مهتمًّا بالسياسة خلال رحلاته إلى أوروبا في الثلاثينيات، إذ شهد تصاعد التوترات في أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية، وكان لهذا تأثير كبير على تفكيره السياسي، وقد أنهى دراسته الجامعية في جامعة هارفارد، وكتب أطروحة عن السياسة البريطانية في مرحلة ما قبل الحرب، ثم نشر كتابه الأول "لماذا نامت إنجلترا؟" الذي أثار اهتمامًا كبيرًا.
بعد الحرب العالمية الثانية، سعى كينيدي للانضمام إلى القوات البحرية على الرغم من حالته الصحية، وخلال الحرب أظهر بطولة نادرة عندما قاد فريقه للنجاة من هجوم ياباني في المحيط الهادئ، وهو ما أكسبه شهرة كبيرة.
وبعد وفاة أخيه الأكبر الذي كان يحظى بمستقبل واعد في السياسة، قرر كينيدي دخول الساحة السياسية، فترشح أول مرة في انتخابات الكونغرس عام 1946، وبدعم من والده، فاز بمقعد في الكونغرس الأمريكي، لكن حياته السياسية لم تكن خالية من الصعوبات؛ فقد ظل يعاني مشكلات صحية، واهتم بالقضايا الكبرى مثل السياسة الخارجية وحرب الباردة أكثر من السياسة الداخلية.
فيما بعد، ترشح كينيدي لمجلس الشيوخ، إذ نجح في الفوز بمقعد عام 1952 بفضل حملة انتخابية ذكية واهتمامه بالقضايا العالمية، ومن ثم بدأت سمعته تتسع كونه رمزًا سياسيًّا شابًا ووسيمًا، كما أصبح محبوبًا من قبل كثير من النساء، ما ساعده على تعزيز صورته في الإعلام.
سيرته السياسية تميَّزت بالمثابرة والذكاء، إذ حاول كينيدي التوفيق بين عمله السياسي العائلي والشخصي، وأصبح في النهاية مرشحًا بارزًا لرئاسة الولايات المتحدة حتى اغتياله المفاجئ في عام 1963.
اغتيال كينيدي ونظريات المؤامرة المحيطة به
لا يزال اغتيال الرئيس الأمريكي جون ف. كينيدي يوم 22 نوفمبر 1963 في دالاس، تكساس، أحد أكثر الأحداث التي أثارت جدلًا واسعًا وأنتجت نظريات مؤامرة متشعبة، إذ خلصت لجنة وارن التي كُلِّفت بالتحقيق في الحادث إلى أن لي هارفي أوزوالد تصرف بمفرده، لكن الشكوك في صحة هذه النتائج استمرت عقودًا.
التشكيك في تقرير لجنة وارن
بعد إصدار تقرير لجنة وارن عام 1964، بدأت كتب وبحوث عدة في تحدي استنتاجاته، وأبرزها كتاب مارك لين "التسرع في الحكم" (1966) وكتاب إدوارد إبستاين "التحقيق" (1966)، وقد ادعت هذه الكتب أن التحقيق كان مملوءًا بالثغرات، وأن بعض الأدلة لم تفحص بعمق.
دور كوبا ونظريات أخرى حول المتآمرين
ظهرت نظريات عدة عن تورط جهات مختلفة في اغتيال كينيدي، وكان لكوبا دور بارز في هذه النظريات، وتكهنت بعض النظريات بأن الحكومة الكوبية كانت مسؤولة، خاصة بعد الكشف عن محاولات وكالة المخابرات المركزية (CIA) لاغتيال فيدل كاسترو. في حين رأى آخرون أن مناهضي كاسترو، الغاضبين من فشل غزو خليج الخنازير، قد يكونون وراء العملية.
من جهة أخرى، توجد نظريات تربط بين الجريمة المنظمة والاغتيال، خاصة مع العداء الشديد بين آل كينيدي والمافيا، إذ أُشِير إلى أن روبرت كينيدي، شقيق الرئيس، كان يقود حملات شرسة ضد الجريمة المنظمة، ما قد يكون دافعًا لقتل جون كينيدي.
نظريات عن تورط وكالة الاستخبارات المركزية والبنتاغون
أشار بعض المحققين، ومن بينهم المدعي العام لنيو أورلينز، جيم جاريسون، إلى احتمال تورط وكالة المخابرات المركزية في عملية الاغتيال، وذلك ضمن مؤامرة أوسع شملت أفرادًا من المخابرات، مناهضي كاسترو، ورجال أعمال، ما أعاد فتح الجدل وأدى إلى إصدار قانون جديد يلزم بنشر وثائق الاغتيال.
أدلة جديدة والتسجيلات الصوتية
في عام 1976، كوَّن الكونغرس لجنة جديدة للتحقيق، وهي لجنة مجلس النواب الخاصة بالاغتيالات التي وجدت تسجيلًا صوتيًّا قيل إنه يكشف عن إطلاق أربع رصاصات وليس ثلاثًا كما ورد في تقرير لجنة وارن، ما يشير إلى وجود مطلق نار ثانٍ. على الرغم من ذلك، فقد تعرضت صحة هذا الدليل للطعن لاحقًا.
فتح الوثائق السرية والتطورات الحديثة
مع استمرار الضغط العام، كُشِف عن ملايين الصفحات من الوثائق السرية بدءًا من التسعينيات. وعلى الرغم من إصدارات متتالية خلال رئاستي ترامب وبايدن؛ لم يتم العثور على "قنبلة" تثبت وجود مؤامرة بصورة قاطعة، لكن بعض الوثائق أوضحت أن أوزوالد كان تحت مراقبة وكالة الاستخبارات المركزية قبل الاغتيال، وهو أمر أثار مزيدًا من التساؤلات.
الشاهد الأخير وروايته المثيرة للجدل
في عام 2023، أعاد العميل السابق في الخدمة السرية، بول لانديس، إشعال الجدل عندما ادعى أنه عثر بنفسه على ما يُعرف بـ"الرصاصة السحرية" في سيارة كينيدي، وليس على نقالة الحاكم كونالي كما كان يُعتقد سابقًا. إذا كان هذا الادعاء صحيحًا، فإنه يطعن في نظرية "الرصاصة الواحدة" التي اعتمدت عليها لجنة وارن، ما يعزز احتمال وجود أكثر من مطلق للرصاص.
ختامًا.. على الرغم من مرور أكثر من 60 عامًا على الاغتيال، لا تزال التكهنات ونظريات المؤامرة مستمرة. ومع الكشف عن معظم الوثائق؛ فإن بعض التفاصيل تظل غير واضحة، ما يُبقي الباب مفتوحًا أمام مزيد من التحليل والنقاش.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.