يعد الانحباس الأدبي شبحًا يلاحق الكتاب، ويؤثر كثيرًا في استمرارية الإنتاج الأدبي، وشغفه ورغبته في الكتابة، لكن دعونا نعكس الوضع، لنفرض أنه أصابك فرط الكتابة، فهل يكون ذلك عائقًا أم حافزًا لك؟ أن تكون لك ملكة، أن تدون كل شيء، وأي شيء وفي الأوقات كلها بحضور الملل أو دونه؟ دون أن تكون لك الإرادة في التوقف؟ هل تخيلت الوضع؟ هذا هو ما يعرف بفرط الكتابة.
عندما بدأت قراءة المقالات العلمية للمتخصصين في علم الأعصاب الذين حللوا هذا الاضطراب قلت في قرارة نفسي من سيئ الحظ هذا الذي يرفض أن تكون له ملكة الكتابة الغزيرة خاصة الطلبة الباحثون والصحافيون والروائيون وغيرهم ممن تلازمهم الكتابة؟ فقد كان يُنظر دائمًا للانحباس البحثي على أنه أكبر معيق وشبح يُرهب الكتاب، لكن هل يمكن عد فرط الكتابة شبحًا من نوع آخر؟
فرط الكتابة HYPERGRAPHIA
يبدو أن فرط الكتابة ليس بتلك السهولة التي نتخيلها، فالأمر يتطلب استعدادًا داخليًا لتحويل هذا العائق إلى إبداع، لكن في ظل وجود التزامات مهنية وشخصية، يمثل هذا الاضطراب عائقًا أمام استمرار واجبات الحياة اليومية، ما يدفع المصابين بفرط الكتابة إلى إسكات صوت تلك الكلمات المزعجة التي تصارع للخروج إلى الواقع المادي، بهدف أن يحصلوا على حياة طبيعية كسائر البشر، وعلى الرغم من أن بعضنا ينظر إلى هذا الاضطراب على أنه هدية ربانية، فإن هذه الهدية لم تكن مقبولة لدى بعضنا نظرًا لما يصاحبها من تأثيرات جانبية كالحالة المزاجية الكئيبة.
يعرف فرط الكتابة (HYPERGRAPHIA) بأنه رغبة عارمة في الكتابة، وكأن الكلمات تمثل عبئًا على ذهن المرء، ويرغب في التخلص منها بتفريغها كتابة، سواء على الورق كمذكرات، أو على الحائط، أو على الطاولة، أو ورق الحمام، وفي حالات حادة يمكن أن تصل إلى الكتابة على الجسد، وكان يعتقد العامة أن فرط الكتابة يرتبط بمشكلات في التعبير عن الذات والأحاسيس، لكن الأمر على العكس من ذلك؛ لأن غالب المصابين بفرط الكتابة لا ينشرون مذكراتهم، أو يشترطون نشرها بعد وفاتهم، ومجمل المذكرات لا تتضمن تعبيرًا عن المشاعر، بقدر ما هي سرد للأحداث اليومية، وجزء كبير منها يكون روتينيًا ومملًا لا يحظى بأي نوع من التشويق.
تجارب المصابين بفرط الكتابة
يعد (روبيرت شيلدز) صاحب أطول مذكرات في العالم، وكان قد تبرع بمذكراته إلى جامعة ولاية واشنطن في عام 1999، وبالعودة إلى موقع مكتبات جامعة ولاية واشنطن للمخطوطات والأرشيفات والمجموعات خاصة، نجد أن المذكرات قدر عدد كلماتها بـ 37.6 مليون كلمة، وكان شيلدز بدأ الاحتفاظ بها من سنة 1972 إلى 1997، وبذلك يتراوح عدد الكلمات التي يكتبها يوميًا بين 4000 إلى 6000 كلمة، ليضطر شيلدز إلى التوقف عن الكتابة بسبب إصابته بسكتة دماغية سنة 1997، واشترط ألا تنشر مجموعة مذكراته إلا بعد وفاته هو وزوجته.
وفي حوار أجري مع (شيلدز) صرح أن المذكرات تتضمن معطيات دقيقة جدًّا عن حياته كعدد أوراق الحمام المستعلمة وعدد الوجبات وأحلامه وضغطه الدموي، ما يوضح حجم التفاصيل المذكورة، والغريب أكثر أن شيلدز لم يعد قراءة مذكراته خوفًا من أن يستغرق وقتًا أكثر على حساب الكتابة، ولنفس المبرر لم يغادر المدينة، ولم يبت خارج المنزل، لكيلا يخلف موعده مع الكتابة، وللغرض نفسه خصص (روبيرت شيلدز) ستة أجهزة كومبيوتر في بيته لمواصلة الكتابة إذا ما تعطل حاسوب ما، ليجد البديل متاحًا أمامه دون أي تأخير.
حالة (روبيرت شيلدز) تؤكد بالملموس أن الكتابة قد تصبح هوسًا، وتصبح نظامًا حياتيًا أساسًا، والغريب أن والد روبيرت (جون آرثر شيلدز) كان بطل العالم في الطباعة السريعة، بسرعة 222 كلمة في الدقيقة، ما جعل البعض يعد أن فرط الكتابة اضطراب وراثي، لا سيما عندما سُئل روبيرت عن دافعه إلى الكتابة المكثفة أعطى إجابة مختصرة: «لا أعرف»، ما يفسر أن مسألة فرط الكتابة هي حالة غير إرادية.
على عكس تجربة (روبيرت شيلدز) كان لهذا الاضطراب دافع لدى بعض الكُتاب المصابين به في تعريف العالم بفرط الكتابة، ونقل تجاربهم، كـ (أليس ويفر فلاهيرتي) في كتابها الذي يحمل عنوان: (مرض منتصف الليل)، وبحسب تصريح (أليس) لمجلة (PSYCHOLOGY TODAY) السبب الذي أدى إلى اشتعال رغبة الكتابة لديها راجع إلى صدمة وفاة ابنيها الاثنين سنة 1998، وقالت: «كان الأمر، وكأن أحدهم ألقى مفتاحًا كهربائيًا، بدا كل شيء مملوءًا بالأهمية، وكان علي تدوين كل شيء»، ولهذا تختلف تجربة (روبيرت) عن (أليس)، فهذه الأخيرة مكنها اختصاصها في طب الأعصاب من تشخيص دافعها إلى الكتابة، ومعرفة نقطة التحول التي أدت إلى إصابتها بفرط الكتابة، على عكس (روبيرت شيلدز) الذي لم يكن يعرف دوافعه إلى كتابة مذكراته، التي ملأت أوراقها 91 صندوقًا، لكنه كان متيقِّنا أن دافعه نحو الكتابة لم يكن اختياريًا، فقد ألصق بعضًا من شعيرات أنفه في مذكراته المحتفظ بها، بغاية فحص الحمض النووي ومعرفة جيناته مستقبلًا، للمهتمين بهذا الاضطراب.
يفترض أن فان جوخ كان مصابًا بـ(فرط الكتابة) على الرغْم من انعدام دليل واضح على ذلك، سوى حالته النفسية السيئة وكتابته الغزيرة، ففان جوخ كتب أكثر من 600 رسالة في المدة بين 1884 إلى 1886، وأنهى 225 رسمة، 25 لوحة مائية، 185 لوحة زيتية، فضلًا على الطبيعة القهرية والمتكررة لموضوعات أعماله.
فرط الكتابة من منظور علم الأعصاب
شخص (نورمان جيشويند) مرض فرط الكتابة المرة الأولى، بعد ذلك زعم بعض المختصين في علم الأعصاب أن مضادات الاكتئاب تخفف من حدته، ويرجع سبب فرط الكتابة إلى أمراض المخ كالصرع في الفص الصدغي، أو خلل الفص الجبهي، أو في الجهاز الحوفي، ويشخص المصاب بصنف معين حسب كتابته، فيُطلب من المصاب الكتابة بخط اليد، ليتدخل حينها المختص الذي يعمل على دراسة وتحليل الخطاب المكتوب، فالذين يعانون تشوهات على مستوى الفص الصدغي يميلون إلى كتابة مذكراتهم بنوع من الدقة والتنظيم والترتيب.
أما حينما يصيب الخلل الفص الجبهي وذلك بسبب السكتات الدماغية أو الامراض العصبية، فتكون الكتابة غير مرتبة، ومملوءة بالأخطاء اللغوية والنحوية، إضافة إلى وجود خلل في مواقع علامات الترقيم، وبذلك توصف هذه الكتابة بكونها (كتابة آلية)؛ أي كتابة تعتمد على نقل الكلمات والعبارات، وعلى رغبة عارمة في الكتابة دون التقيد بالضوابط الشكلية التي تفرضها الكتابة السليمة، على عكس النوع الأول.
والنوع الثالث من الكتابة، فقد ظهر عند أولئك الذين سبق لهم تناول عقار (L-DOPA)، ويرجع ذلك إلى زيادة إطلاق هرمون السعادة في الجهاز الحوفي.
عد (جيشويند) الصرع الفصي الصدغي يؤدي إلى فرط الكتابة مع وجود صفات أخرى مصاحبة كالفرط في التدين، وإظهار أسلوب عدواني وأناني، وقلة الشهوة الجنسية.
وعلى غرار فرط الكتابة توجد كذلك حالة فرط القراءة (hyperlexia)، وهي قدرة عالية لدى الفرد للقراءة والفهم دون أن ترتبط هذه الحالة بتعلم سابق، أي إنها تحدث تلقائيًا، وأرجع سبب هذه الحالة كذلك إلى اضطراب النمو العصبي حسب دراسة للمختصة (alexia ostronlenk).
وعمومًا يظهر أن فرط الكتابة لا يعد ضيفًا مرحبًا به، وليس اختياريًا أو طوعيًا، أو مرتبطًا بالإبداع، بل هو نتيجة لاضطراب، على الرغم من أنه لم يحظَ بكثير من التحليل الكافي لمعرفة مزيد من خفايا هذا الاضطراب الغريب.
أما بخصوص كيفية تعامل المصابين به معه فتتباين حسب حدته، فمنهم من استغله وحوله إلى قدرة إبداعية لكتابة روايات ومذكرات، ومنهم من اختار إخماد شرارة الرغبة في الكتابة وتخفيفها بالاستعانة بالمتخصصين في طب الأعصاب.
المصادر
(1). روبرت شيلدز، أطول مذكرات في العالم، حوار بين (ديفيد إيساي) و(روبيرت شيلدز) SOUND PORTRAITS
(2):kalyan b Bhattacharyya; Saurabh rai;the neuropsychiatric ailment of vicent van gogh; national library of medicine.
(3):ANDREW LEES, hypergraphia a neglected sign in neurology, psychology today.
محتوى مفيد ورائع جدا
ربنا يوفقك دوما
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.