اضطراب تعدد الشخصيات أو كما أصبح يُطلق عليه اضطراب الهوية الفُصامية هو مرض نفسي نادر يصيب 1% إلى 3% من سكان العالم. ويبدو هذا المرض سحريًّا وغريبًا إلى درجة قد يصعب على النفس البشرية التصديق بوجوده أو تقبله، فالمصاب بهذا المرض يحمل داخله في الأقل شخصية أخرى أو شخصيات عدة مستقلة ومتميزة في شكلها، ذكرياتها، وسلوكها عن الشخصية الرئيسة، أو كما درج على تسميتها الشخصية المضيفة، فكأن داخل الشخص يتحول إلى ركح مسرحي يُسلَّط الضوء في كل مرة على إحدى الشخصيات التي تظهر للملأ، في حين تبقى بقية الشخصيات في العتمة تنتظر دورها.
صدمة تؤدي إلى الفصام
أُجريت دراسات عدة تهدف إلى فك غموض هذا الانفصام ومزيد فهم أسبابه، وقد توصل الباحثون إلى أنه ينتج عن صدمة عنيفة تعرض لها الشخص في طفولته في سن لا تزال قدراته العقلية فتية، غير قادرة على التعامل مع مثل هذه الصدمات.
ومن أكثر الصدمات شيوعًا التحرش الجنسي أو العنف الجسدي المتكرر الذي يخضع له الطفل، أو فقدانه لشخص عزيز على قلبه، وهي تجارب قاسية تفوق قدرة العقل الفتي على التحمل والمعالجة، ما يجعله عاجزًا عن استيعاب هذا الكم من الألم، فلا يجد أمامه خيارًا سوى التخلص منه، وذلك بفضل خلق آلية دفاعية تتمثل في تكوين شخصية جديدة وتحميلها كل ما يتعلق بذكريات الصدمة، فكأنه بذلك يُجرد نفسه مما أصابه ويتبرأ منه، ومع مرور الوقت يصبح هذا البرنامج وسيلة الدماغ في التعامل مع الصدمات التي تحدث له، وبذلك تكثر الشخصيات وتتنوع.
عادةً ما يقع تشخيص هذا المرض في مرحلة البلوغ، لكنه يجدر القول إنه ليس من السهل التوصل إلى وضع المفردات المناسبة؛ وذلك نظرًا لمدى تعقيده واشتراك أعراضه مع غيره من الأمراض النفسية كثنائي القطب.
وتتميز كل شخصية باسم، وشكل، وعمر، وسلوكيات، وذكريات، وقدرات جسدية، وأحيانًا لغة مختلفة عن الشخصية الرئيسة أو المُستضيفة، فكأن المريض يصبح بمنزلة الممثل المؤدي المتمرِّس الذي بإمكانه انتحال شخصيات مختلفة، لكنه في مثل هذه الحالة المرضية يكون الشخص غير واعٍ بما تقوم به كل شخصية، وعاجزًا عن تذكر ما قامت به.
أشخاص عدة في شخص واحد
فعلى الرغم من أن الشخصيات تتقابل فيما بينها في عالمها الداخلي داخل رأس المريض، ما يصدر عن كل منها من أفعال أو أقوال قد لا يكون معلومًا فيما بينها، فقد ينام الشخص في مكان ليجد نفسه في مكان آخر دون أن يتذكر كيف وصل إليه، فدائمًا ما يجد نفسه أمام هوة أو فراغ من الذكريات، وما يزيد الأمر تعقيدًا أن هذه الشخصيات قد لا تبقى ثابتة، بل قد تتغير نتيجة لعوامل خارجية أو محفزات تتسبب في ظهورها، سواء كانت إيجابية أو سلبية.
نجد أن غالبية المرضى يتميزون بشخصية طفولية يمكن التعرف عليها بسهولة من طبقتها الصوتية وسلوكياتها التي قد تجذبها الحلويات أو أفلام الكرتون لتخرج للضوء، كما يتميز المريض بشخصية حمائية يكون دورها الدفاع عن المجموعة التي عادةً ما تتفوق على غيرها من الشخصيات بقدرات جسدية أو عقلية متقدمة تجعلها المرشح الأول في الوضعيات الخطرة.
وفي المقابل، قد تظهر شخصية أخرى تحمل شتى أنواع الصدمات التي يكون من الصعب التعايش معها من قبل النظام أو مجموعة الشخصيات الأخرى، نظرًا لأنها شخصية مكتئبة قد تشكو من ميول انتحارية.
في أغلب الحالات، تكون الشخصية المسيطرة هي الشخصية المستضيفة الأساسية التي تتولى القيادة صحبة شخصيات رئيسة أخرى، ولا يتوقف تميز الشخصية عن الأخرى سلوكيًّا أو لغويًّا فقط، فقد تشكو الشخصية، على سبيل المثال، من نقص في البصر، في حين تتميز أخرى بقدرة سليمة تمامًا على الرؤية، أو قد تعاني إحداها من عمى ألوان أو ارتفاع في مستوى السكر يميزها عن غيرها، ما يجعلنا أمام أشخاص في شخص واحد.
فيلم Split
وقد نجح صناع فيلم Split في تجسيد مدى اختلاف الشخصيات المتعددة، فظهرت إحداها تشكو من وسواس قهري يجعلها في رغبة مستمرة في التنظيف، وأخرى تعشق الموضة وتتميز بإطلالات غريبة تجعلها متفردة عن بقية الشخصيات الأخرى، وليس الاختلاف بينها مقتصرًا على السلوك والمظهر فحسب، بل يمتد أيضًا إلى طريقة تواصلها، فقد تتحدث مختلف الشخصيات وتتفاعل فيما بينها، ما يجعل تقبل المريض لمرضه خطوة أساسية في تكوين علاقة أشبه بالعائلة داخل عقله، إذ إن قدرة الشخصيات على التداول وإعلام بعضها بما تقوم به تُعد عنصرًا أساسيًّا في العلاج.
تمثلت رغبة الأطباء الأولى في خطة علاجية تفضي إلى دمج الشخصيات والخروج بشخصية واحدة، لكنه نظرًا لمدى تميز كل شخصية واستقلالها، اعتُبر مثل هذا النوع من العلاج بمنزلة الحكم بالإعدام الذي لا يمكن أن يتقبله النظام، فأصبح من الملائم أكثر العمل على إنشاء جدول للتنسيق بين الشخصيات وتمكينها من العمل فيما بينها حتى تتوصل إلى التصرف بطريقة أقرب ما تكون إلى الطبيعية.
يطرح اضطراب الهوية الفُصامية كغيره من الأمراض النفسية مدى قدرة الفرد على الاندماج في المجتمع، ولا سيما مدى قدرته على إنشاء روابط إنسانية مع ما يحمله شخص المريض من تحديات وعوائق.
مقال رائع جدا ومفيد ... ابدعتي صديقتي اميرة
شكرا لك
مقال مثير للإهتمام ولو أنني وددت لو كان هناك مقارنة ولو مختصرة بين الفصام و ثنائية القطب
لكن بالعموم مقال رائع
وبما أنك ذكرتي فيلم
لقد شاهدت منذ فترة المسلسل الكوري سيء و مجنون وقد طرح الفكرة وإن بشكل بسيط لكن كان رائع
شكرا لك وبالتوفيق دائماً
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.