ضربت جائحة كوفيد-19 العالم في نهايات عام 2019 وبدايات 2020، وأُغلِقت مدن بل دول بِرُمَّتها، وتوقفت حركة السفر في العالم، وبدأ تطبيق إجراءات احترازية شديدة في جميع الأماكن، ومنها حظر التجول الجزئي تارة والكلي تارة أخرى.
وفي مثل هذه الأزمات الصحية تحدث أحداث ومواقف اجتماعية واقتصادية على جميع المستويات، ويأتي دور الكُتاب والأدباء والمؤرخين والاقتصاديين وغيرهم في رصد مثل هذه الأحداث وتحليلها وتوثيقها.
لذا هيا بنا نقرأ ونحلل ما كتبه «محمود السانوسي عبادي» في قصته القصيرة «توفيق أوضاع» المنشورة في مجلة «سِشات الثقافية»، الصادرة عن إقليم جنوب الصعيد الثقافي- العدد الثالث 2019/2020، بصفحات 24:27.
فهي قصة من وحي أزمة كورونا في بدايتها بمصر، فإن الأزمة التي تتحدث عنها القصة أزمة صحية أدت إلى حدوث أزمات اقتصادية واجتماعية ومحلية وأخلاقية عدة.
اقرأ أيضًا ملخص رواية أماريتا للكاتب عمرو عبد الحميد واقتباسات من الرواية
ملخص القصة
بدأت القصة بتحديد الزمان باليوم والتاريخ الميلادي والهجري، فكلما مر على تلك القصة زمن صارت قصة قصيرة تاريخية، تحكي لنا مشهدًا من إحدى زوايا يوميات المصريين في أول عيد فطر يمر عليهم في ظل جائحة كورونا.
علمًا بأن المساجد قد أُغلِقت في أول شهر رمضان ولما تقام صلاة العشاء والتراويح ولا صلاة عيد الفطر للمرة الأولى! في الأقل في التاريخ المصري المعاصر ولجميع الأجيال التي تحيا في بداية العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
فكتب المؤلف على لسان البطل الراوي قائلًا: «اليوم الثلاثاء 26 مايو الموافق 3 من شوال 1441هـ، ثالث أيام عيد الفطر.
وحيث إنه في ذلك اليوم يجب أن يستنفد المنزل كثيرًا من السلع الغذائية وكثيرًا من الرغبات الملحة في استكشاف المدينة وشوارعها.. فهل تغير شيء؟
هل رائحتها الرائحة نفسها وأصواتها الأصوات نفسها؟ والملابس التي تطفو دائمًا كما يطفو الورد في الربيع، وكما تنبثق الزغرودة في الفرح.. كما.. كما...؟
قلت إذن لا بد من الخروج، وإن كان ليس باستطاعتي إلا أن أخمن...».
كان لا بد للكاتب فعلًا أن يبدأ مثل هذه البداية، فالخروج من البيت في ظل الإجازة الرسمية من الدولة للاحتفال بعيد الفطر والمصاحبة لحظر التجول الشامل يُعد مخاطرة كبيرة جدًّا.
«وأعدُّ نفسي متجولًا تحت الاختبار، هل سألاقي بعض المتاعب الناجمة عن توقف سيارات الأجرة تطبيقًا للحظر الشامل؟ نعم سألاقي، وهذا لا يعني ألا أسعى إلى الانبثاق من هذا الكهف المنزلي».
اقرأ أيضًا كتاب الخروج عن النص.. ملخصه واقتباسات عن مرآتنا النفسية
نظرة عامة على القصة
تحكي قصة «توفيق أوضاع» أزمة المواصلات العامة داخل المدينة تحت الحظر الذي فرضته الحكومة كونه أحد الإجراءات الاحترازية في أثناء أيام عيد الفطر المبارك، للحد من ازدحام الشوارع والأماكن العامة حتى الزيارات العائلية والأسرية للمعايدة والاحتفال بالعيد.
فالوسائل المتاحة إما سيارات التوكتوك الخاصة (30 جنيهًا) وإما سيارة السرفيس (جنيهين) وإما سيارات الأجرة الخاصة (40 جنيهًا لهذا و50 لذاك.. وهكذا) للتوصيل إلى المسافة نفسها!
وتوثق القصة استغلالًا آخر للظروف التي تمر بها البلاد وقت أزمة جائحة كورونا، وهو الارتفاع غير المبرر لأسعار الأدوات والوسائل الخاصة بالإجراءات الاحترازية كالكمامات.
فقد وصل سعر الكمامة العادية إلى 5 جنيهات، وزجاجة الكحول إلى 30 جنيهًا، فكان لا بد للبطل الراوي شراء كمامة من الصيدلية المجاورة لشركة الاتصالات، لكي يتمكن من الدخول إليها وتسديد فاتورة الإنترنت لتجديد الباقة، فلم تعد توجد وسيلة للتسلية بديلًا عن اللقاءات الاجتماعية في ظل الحظر غير تصفح شبكة الإنترنت.
بالطبع كان من أهداف خروج البطل من بيته في ثالث أيام عيد الفطر المبارك شراء كمية من المأكولات والمشروبات اللازمة للبيت.
وهنا دمج المؤلف «محمود السانوسي» بين المأكولات كونها تسلية للاحتفاء بالعيد وبين الأغذية والمشروبات التي تقوي مناعة الإنسان وتعززها، لكي يقاوم الفرد الإصابة بفيروس كورونا.
وقد أظهرت جائحة كورونا فئات بالمجتمع ممن حبسوا بضائعهم ليرتفع سعرها وخنقوا الناس ليتنفسوا هم بحرية كاملة.
وتوجد أمثلة كثيرة نقرأ عنها يوميًّا، في ظل المعاناة اليومية التي يعيشها الناس من انتشار فيروس كورونا، ومن بعده بسبب التضخم الاقتصادي العالمي الذي طال مصر مع نشوب الحرب الروسية الأوكرانية.
اقرأ أيضًا ملخص كتاب الذكاء الأخضر ونظرة مختلفة من جهة النبات والكوكب الأخضر
موقف بطل القصة ودوره
والمفارقة السردية في تلك القصة هي الفارق بين موقف البطل الراوي في بداية القصة «ذهابًا» وموقفه المغاير بل المضاد تمامًا في نهاية القصة «إيابًا».
ففي رحلة انتقاله من مكان سكنه إلى وسط المدينة حيث المتاجر والأسواق لكي يبتاع ما ينقصه هو وركاب الميكروباص في ظل الحظر الشامل في أيام العيد، رفع صوته ودافع عن السائق الشهم المغوار ووقف ضد باقي الركاب الذين استسلموا لرأيه ودفعوا للسائق 5 جنيهات بكل رضا.
وعندما نزل من السيارة وتجول واشترى كل ما يحتاج إليه من دون وعي، وقد أصبح محملًا بكثير من الأكياس المملوءة، وكان من المفترض أن يقف موقفه السابق نفسه مع السائق بل ويُجبر الركاب أنفسهم على دفع 10 جنيهات، اكتشف أنه لم يعد يملك سوى جنيهين لا أكثر، وهي قيمة الأجرة الرسمية للميكروباص.
فكان مَن أنقذه هذه المرة هي السيدة التي كانت تجلس بالمقعد الخلفي وراءه تمامًا هي وابنتيها، التي رفضت أن تدفع أكثر من الأجرة الأصلية، رغم أن علامات الثراء تبدو عليها!
ما جعل السائق ينظر إلى البطل بدهشة غريبة مستغربًا انقلاب موقفه رأسًا على عقب، ما جعل البطل لا يستطيع النظر إليه، فأخذ ينظر في اتجاه الشباك يتابع الطريق.
توجد فئة من البشر تخصصت في استغلال الظروف التي فرضها المجتمع على حياة الناس الذين يعيشون الواقع.
قالت السيدة للسائق: «بفرض أنني أعطيتك مبلغ 15 جنيهًا لكن من الممكن أن يكون أحد الركاب ليس لديه إلا قيمة الأجرة الأصلية»، إنهم تجار الأزمات الذين لا يجدون أنسب وقت لبضائعهم أو خدماتهم من سوق يعيش فيها المجتمع في أزمة.
وتؤكد تلك السيدة الذكية اللبقة -كما وصفها البطل الراوي- في الجدال الدائر بينها وبين السائق: «من الجائز أن راكب يضطر لدفع أجرة عدد من الركاب كان على معرفة بهم أو سيدات وفتيات وهو عمهم أو خالهم... حينها تعجز محفظته عن تسديد مبلغ استثنائي لعدد استثنائي، فهل فهمت يا سائق؟!».
اقرأ أيضًا كتاب اللاهوت العربي وأصول العنف الديني لمؤلفه يوسف زيدان
دور الصراع النفسي في تغيير الإنسان
هل نستطيع أن نقول إن البطل الراوي غيَّر مبادئه ما بين الذهاب والإياب لمجرد أنه في البداية كان معه ما يدفعه للسائق فوق التسعيرة الرسمية، وفي النهاية لم يجد داخل محفظته ما يدفعه غير الأجرة الأصلية؟!
في حقيقة الأمر قد حسم ذلك الحوار الذي دار بين البطل ونفسه، عندما قال: «لو كانت السيدة تلك تركب معي في رحلة الذهاب لكنت لقنتها درسًا في تقدير جهود السائق وفيما يقدمه لنا رغم الخطر والحظر، كفى أنها ليست بالسيدة الفقرة، إلا أنها تحدثت عن المبدأ».
فهنا هو قد اقتنع برأي تلك السيدة وحجتها، إضافة إلى أنه أصبح تحت ضغط وصراع نفسي إذ خاف من نظرات الشماتة التي قد يراها في أعين الركاب أنفسهم الذين كانوا معه في التوصيلة الأولى.
خاصة الشيخين اللذين دفعا مبلغ 10 جنيهات بعد أن أقنعهم، وما كان منهما في رحلة الإياب إلا أن «أعاد الشيخان النظر إليَّ فلم يجدا إلا رجلًا صامتًا وشاردًا في الطريق الطويل، فأعادا مطالبة السائق بباقي الـ 10 جنيهات».
وإذا لـم یـُسانَد الشــخص للــتخلص أو للتخفیــف مــن الأزمــة وإعادتــه إلــى ســابق حالتــه الانفعالیـة قبـل الأزمـة، فیمكـن أن تسـبب له الأزمـة خلـلًا أو عجـزًا وظیفیـًّا انفعالیـًّا أو معرفیًّا سلوكیًّا، ومن ثم يمكن التأكیـد علـى مـا یسـمى «إدراك الحـدث أو الموقـف» أكثـر مـن التأكیـد علـى الحـدث أو الموقـف ذاتـه.
كان البطل قد تعرَّض لظروف استثنائية أهم وأخطر من ظروف السائق الاستثنائية، وكان من المتوقع حدوث فضيحة كبرى داخل هذه السيارة «المتهالكة الفرش والأبواب والشبابيك التي لا يمكن أن تكون أوراقها سليمة، رخص وصحة وسلامة مهنية.
فأنا لم أجد طفاية حريق بالسيارة، لا زجاج سليم ولا مرايات يمكن أن تكون مرشدًا للسائق»، أي أنها سيارة مخالفة لجميع قوانين المرور، ولكن تحت ظروف الحظر وعدم التجول وإجازة عيد الفطر، لم يجد الناس غيرها لتوصيلهم دون استغلال.
ما اضطر «السيدة التي بدت من ملابسها أنها سيدة ترتدي ملابس أنيقة هي وبناتها، كما أن الأقراط الذهبية بأذنَي كل فتاة وهي كذلك عليها زينة تساوي الكثير...».
ولكن جاءت تلك السيدة لكي توفق أوضاع هذا الرجل البطل، وتُنقذه من هذا المأزق الصعب الذي تعرض له بسبب صرف كل الأموال التي كانت في محفظته من دون أن يعي أنه لم يدخر حتى أجرة السيارة السرفيس! «كذا السائق لم يجد حليفًا غيري.
فكان كلما هدأت السيارة بعد مطب صناعي يُلقي عليَّ نظرة خاطفة مستفسرة عن سبب خرسي، فأقابل تلك النظرات الخاطفة بالنظر خلفي إلى السيدة وابنتيها هازًّا رأسي بفرحة، وعيناي تحدثانها، تمام يا ست الكل، 2 جنيه لا أكثر».
اقرأ أيضًا ملخص كتاب "كيف تصبح إنساناً؟" للدكتور شريف عرفة.. أحداثه واقتباساته
ختام القصة والغرض منها
من هذا المقطع الختامي للقصة، نكتشف أن رأي الإنسان وتصرفاته وردود فعله من الممكن أن تتغير بين لحظة وأخرى، طبقًا للمعطيات، فرأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب.
وعندما يتعرض الشخص لضغط نفسي أو عندما يدخل في صراع نفسي بينه وبين من حوله، فإنه يُفكر بسرعة في حيلة دفاعية يدافع بها عن نفسه حتى لا ينهار.
وكما نرى، رسم لنا المؤلف مشهد السيارة من الداخل ذهابًا وإيابًا، ووصف لنا كيف للسيارة أن تُهدئ من سرعتها عند محاولة تخطيها لأي مطب صناعي.
وواضح أنها مرت بمجموعة مطبات وليس بمطب واحد، ما كان يعطي السائق الفرصة لأن ينظر في المرآة التي أمامه لكي يُلقي نظرة لوم أو عتاب أو سؤال على هذا البطل، مستفهمًا عن سبب تغيُّر موقفه.
وبذكاء شديد منه ومن الكاتب جعل من السيدة التي قلبت الموقف لمصلحته أن تجلس في المقاعد خلفه مع ابنتيها، فكان يلف رأسه وعينيه لهم مع كل مرة يحاول فيها السائق خطف نظرة إليه.
وكانت نظرة السائق فيها غضب وحزن، ونظرة البطل فيها سعادة وسرور؛ فعلـى الـرغم مـن أن الأزمـة تحمـل فـي طیاتهـا بُعـدًا سـلبیًّا، فقـد حملت فــي طیاتهــا أیضــًا بُعــدًا إیجابیــًّا.
وكمــا یــرى أستاذ علم النفس التربوي الدكتور عادل السعيد البنا، في بحثه المعنون «الفنیات السیكولوجیة المستخدمة في إدارة الأزمات»، المنشور في مجلة كلیة التربیة بدمنهور، في المجلد الأول للعدد (1) لسنة 2009: «إن نجــاح الفــرد فــي مواجهــة الأزمــات یُعــد بمنزلة فرصــة للـتعلم والنمـو وتعزیـز ذخیـرة قـدرات الفـرد التكیفیـة، وتمكینـه مـن التعامـل بنجـاح مع الأزمات المستقبلیة».
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.