أدب المهجر.. صوت لا ينطفئ بالغربة

في المنفى، حيث يبهت اللسان وتتآكل الذاكرة تدريجيًّا، ينهض الأدب كونه فعل مقاومة خفية، أدب المهجر ليس كتابة عن الغربة، بل هو الغربة ذاتها وهي تُترجم إلى كلمات، هو نبض القلب المُعلَّق بين وطنٍ غادره الجسد، ووطنٍ جديد لم تسكنه الروح بعد، هو محاولات مستمرة للانتماء، ولحفظ ما يمكن حفظه من اللغة والهوية والحنين.

عبر التاريخ، أدى المغتربون دورًا محوريًّا في تكوين صورة الأدب العربي المعاصر، بأصواتٍ شُرِّدت عن أرضها، لكنها لم تتخلَّ عن لغتها، هم أولئك الذين تركوا الوطن مرغمين أو باحثين عن أفقٍ أوسع، لكنهم حملوه في قلوبهم ودفاترهم، وراحوا يكتبونه كما لو كان لا يزال يسكنهم، لم يكن المنفى لهم نهاية، بل بداية لرحلة جديدة من الكتابة، فيها من الألم قدر ما فيها من الإبداع، ومن التيه قدر ما فيها من التجلي.

فجبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، وإيليا أبو ماضي، وغيرهم من أدباء الرابطة القلمية، لم يكتبوا فقط عن أوطانهم، بل كتبوا بها، ومنها، وضد نسيانها، جبران الذي عاش في المهجر الأمريكي، لم ينقطع يومًا عن روح الشرق، فكتب نصوصه الأكثر خلودًا باللسان العربي، حتى إن نشر بالإنجليزية لاحقًا، كان يرى أن اللغة وطن بديل، وأن الأدب جسرٌ يعبر به نحو ذاكرة لم يرد لها أن تموت.

أما ميخائيل نعيمة، فكان يرى أن الغربة لا تُقاس ببعد المسافة، بل بعمق الانتماء، ولهذا ظل صوته الأدبي حريصًا على أن يبقى جزءًا من الثقافة العربية، يحملها معه أينما حل، كتب عن الفقر والحب والموت والحرية كما لو أنه لا يزال جالسًا في قريته، لكنه فعل ذلك من قلب نيويورك، وإيليا أبو ماضي، بشعره المرهف المتأرجح بين الأمل والقلق، أعاد تكوين القصيدة العربية في المنفى، فكانت قصيدته مساحة تأمل في الوجود والهوية والانتماء.

كانت لغتهم سلاحهم، وحنينهم مداد حروفهم، لم يتعاملوا مع الغربة كونها عائقًا، بل كونها بيئة جديدة لصوتٍ عربيٍّ يُعيد تقديم نفسه، بلهجةٍ مختلفة، لكن بالقلب نفسه، في نصوصهم، لم تكن الكتابة ترفًا، بل ضرورة وجودية، وطوق نجاة من الذوبان في ثقافة الآخر، فكل قصيدة، وكل مقال، وكل نص، كان أشبه برسالة حب طويلة موجّهة إلى وطنٍ ما يزال يسكنهم، حتى وهم بعيدون عنه.

أدب المهجر هو محاولة دائمة للربط بين عالمين: الماضي بكل ما فيه من دفء الجذور، والألفة، واللهجة الأولى، وصوت الأم، والمستقبل بكل ما فيه من صقيع الاغتراب، من لغة غريبة لا تكتمل فيها الجمل، وطرقات لا تعرف أسماءها، وعناوين لا تحمل رائحة الذكريات، هو أدب الولادة الثانية، حين يُضطر الكاتب أن يعيد تعريف ذاته من جديد، لا لأنه فقد ملامحها، بل لأنه يريد أن ينقذ ما تبقَّى منها.

لا يكتفي هذا الأدب بالشكوى، بل يُنتج رؤى جديدة، ويطرح تساؤلات جذرية عن الهوية والانتماء واللغة والمكان، هو أدب لا يُهادن، لا يُجامل، بل يكشف عن هشاشتنا حين نُجبر على العيش بين «هناك» و«هنا»، بين ما كنا عليه وما نحن عليه الآن، يكتب المغتربون من موقع «الخارج»، لكنهم يعيدون ترتيب الداخل، يعيدون النظر في الوطن كما لو كانوا يزورونه من بعيد: يندهشون من عاداته، ويتألمون من مشاكله، ويكتشفون وجهًا آخر له لم يُتح لهم رؤيته وهم فيه.

وما يلفت الانتباه أن هذا الأدب لا يخدم فقط المغترب، بل يخدم القارئ العربي نفسه، سواء كان داخل الوطن أو خارجه؛ لأنه يطرح عليه سؤالًا مهمًا: ما الذي يعنيه أن تكون عربيًّا اليوم؟ في عالم تُمحى فيه الحدود تكنولوجيًا، وتُفرض فيه الحدود ثقافيًّا؟

هو أدب يعيد إحياء اللغة في بيئةٍ تتآكل فيها بفعل الاندماج والذوبان؛ لأن اللغة الأم تصبح أحيانًا عبئًا في المجتمعات الجديدة، ويُنظر إلى التمسك بها على أنه تخلُّف أو انغلاق، وحينئذ يأتي أدب المهجر درعًا لغويًّا، يحمي هذه اللغة لا بمجرد استخدامها، بل بإعادة شحنها بالحياة، فالكلمات ليست فقط وسيلة للتواصل، بل أداة للحفاظ على الذات، ووسيلة للنجاة من الذوبان الكامل.

والقصائد في هذا السياق ليست تعبيرًا شعريًّا، بل حبل متين يشد الهوية إلى جذورها، يرسم للمغترب خريطة روحية حين تضيع الخريطة الجغرافية. ولهذا، فإن أدب المهجر ليس أدب حنينٍ فقط، بل أدب بقاء. بقاء الروح في وجه التلاشي، وبقاء اللغة في وجه النسيان، وبقاء الوطن.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

لقد ابدعت.
لطالما كنت شغوفا بأدب المهجر وزاد التعلق بفضل هذا توصيفك هذا الذي عانق الروعة
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة