كل مولود يولد على الفطرة السليمة، النقية الجلية، التي لا تشوبها شائبة، قال تعالى: "فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا".
فالله تعالى فَطر خلقه على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره، فرواية "حي بن يقظان" وهي قصة فلسفية رمزية كتبها الفيلسوف الأندلسي ابن طفيل في القرن الثاني عشر الميلادي تدور حول شخصية رئيسة تُدعى "حي بن يقظان"، ينشأ في جزيرة معزولة عن البشر، ويصل إلى المعرفة والحكمة عن طريق التأمل والتفكر في الطبيعة.
وتُعد الرواية تأملًا في العلاقة بين العقل والدين، والفطرة والمعرفة، حيث يسعى ابن طفيل فيها إلى بيان أن العقل يمكنه الوصول إلى الحقيقة المطلقة إذا ما استُخدم على نحو سليم، وأن التجربة الروحية العميقة تقود الإنسان إلى معرفة الحقيقة.
اقرأ أيضًا: خاطرة "خطيب الجمعة والمذيع".. خواطر أدبية
لكن البيئة التي ينمو فيها الشخص تنعكس عليه، إما أن يتطور فيها فيتسم بالفكر العميق، والأخلاق السليمة، والمعاملة الحسنة، يضع مخافة الله نُصب عينيه، ويكن بارًّا بوالديه، طالبًا للعلم، متفقهًا بالدين، وإما أن يسلك طرقًا وعرة، تقوده للضياع والهلاك، ويكون همه الدنيا ونعيمها، ويغفل عن الآخرة ونذيرها.
فظهور الشخص على طبيعته، أي أن "يظهر كما يكون" فيكون بين أقرانه متزنًا مقبولًا، يمارس حياته بيسر وسهولة، يؤدي واجباته وأعماله ضمن نسق لا يبرحه، لكن إذا تكلم بأسلوب مغاير سيقال عنه متكلف، وإذا تصرف على نحو مختلف يقال عنه متصنع، أو متكبر؛ لأنه خالف المتحكم الرئيس بتصرفاته، والمنبع الذي يغذي فكره ومعتقداته.
لكن قد يقول قائل: ألا يتعارض هذا مع التطور؟ حتمًا لا. فبالعودة للشق الثاني من العنوان "تكون كما تظهر" فقبل أن تظهر بشخصية جديدة يجب أن تُطور الجوهر ضمن المسارات الآمنة؛ حتى يكون ظهورك مطابقًا لما تفكر به، وتخطط له، وتحلم بتحقيقه، فإذا كانت الجذور عميقة راسخة سيكون النمو باسقًا يانعًا، ثمره طيب ووفير.
فالبرمجيات تَظهر نتائجها على الشاشة، وهي تحتاج لإعمال الفكر حتى تكون على أكمل وجه، فالتطور محفوف بالمخاطر، لا يقدم عليه إلا مغامر، يُسخِّر إمكانياته وقدراته، ويجعلها متأهبة للتغيير والتبديل ليؤتي الثمر أُكله، ويُصبح ناضجًا.
اقرأ أيضًا: سجدة شكوى.. خواطر أدبية
والتطور هنا لا يلغي الأصل؛ لأنه ثابت راسخ، وإنما يجعل له فروعًا متشعبة ظلها وافر، وغصنها نَديٌّ، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. والعكس من ذلك يشابه البالون، فجأة يظهر، وبسرعة يأفل، لا يترك أثرًا، ولا يقدم نفعًا، والأصل أن نجعل آثار نجاحنا هي من تخبر عنا، لا أن نسوِّق لأنفسنا والنتائج لم تَنضج بعد.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.