لطالما أدركت أن التغيير سنة الكون، وأن للمرء ملكة ربانية عجيبة تدفعه إلى الشعور بأن أوان التغيير قد حان، فيبدأ باستقبال رسائل الكون وإشاراته، فقد كانت ولا زالت تبتعد عن كل ما يمس روحها فلا تقربه إطلاقًا.
ولأنه لا يمكن تغيير الكون بل عليه أن يغير هو من نفسه حينها يبدأ بالنظر من زاوية أخرى، زاوية تفتح له كثيرًا من الآفاق التي كانت غائبة عنه حين كان معتمدًا على نظرة أحادية ولا يريد أن يرى غير الذي يريده هو، فَيُضَيِّع على نفسه كثيرًا من المشاهد التي بإمكانها أن تسمو بروحه وعقله.
صديقتنا تنظر دائمًا إلى ما ينعش روحها وعقلها بغض النظر عما تجنيه من الناحية المادية، وهذا هو اختبارها في الحياة. لقد تساءلت يومًا عن أهمية شهاداتها المتحصل عليها ولماذا لم تعمل بها يومًا؟ فقد كانت تجلد نفسها أيَّما جلد لكنها سرعان ما تهدأ بقدرة قادر، فتساؤلات عدة كانت تحوم حول فكرها ولا تجد لها إجابة إلى غاية أن عثرت على ضالتها.
اقرأ أيضًا: "من هو الصديق الحقيقي؟".. خواطر أدبية
في الواقع ضالتها كانت موجودة من قبل ومنذ الأزل لكنها لم تعتمدها مرجعًا لها، ربما السبب هو عديد المشتتات التي كانت تغطي على الأمر، أو ربما لم يحن الوقت بعد لتتجلى أمامها وهذا ما تأكد لصديقتنا.
إن الله تعالى وبكل كرمه وعطائه بمحبة وحنان يُهيئ عبده لما سَيُصْبِحُ عليه، فيزرع داخله كثيرًا من بذور الخير، ويدعه ليسقيها ويهتم بها، فإن أدرك الحكمة كان من الفائزين، وإن لم يدركها فعليه بذل المجهود ليلتقطها بكلتا يديه، كمثل ذلك الذي يقف على شاطئ البحر من أجل البحث عن الأصداف التي لطالما أغرت عينيه بمنظرها البراق.
إن من يبحث ويدقق فإن مصيره حتمًا العثور على ما يريد، واللَّه تعالى وضع أمام عبده كثيرًا من الكنوز والدُّرَر وما عليه إلا أن ينقب وراءها ليتنعم بها وينشرح صدره لها، وما بريق تلك الأصداف إلا كمثل تلك العطايا التي يسخرها اللَّه لعبده.
أما صديقتنا فمن بين اختباراتها في الحياة هو الخوف، فقد كان خوفها متنوعًا وعلى جميع الأشكال، ولا أقصد هنا الخوف المادي فهو أمر بإمكانها أن تتخطاه؛ لأن جسم الإنسان خُلِقَ بخاصية دفاع فطرية زرعها اللَّه تعالى فيه، ومنذ أن فتح عينيه على الكون، فما أقصده هو ذلك الخوف النفسي والروحي الذي يجثم على فكر المرء فيشل حركته ولا يدعه يتقدم.
صديقتنا كانت تخاف من ألا تلقى ترحيبًا من الآخرين أو ألا تصبح محبوبة، خصوصًا حين كانت في مرحلتها الابتدائية، فهي تتذكر حين كانت تلميذة ذات سبعة أعوام داخل القسم وحين لا يُثْنِي عليها المعلم من أجل واجب منزلي قامت به حينها تقضي يومها متكدرة وكأن الكون انقلب رأسًا على عقب، فقد كانت نظرتها سطحية للأمور وهذا طبعًا لصغر سنها ووعيها المنعدم.
ومن بين اعتقادات صديقتنا التي كانت تتبناها أيضًا هو فكرتها عن الجمال، فقد كانت تراه على أنه مزيَّة أو هدية يحصل عليها العبد، أما من لم يحصل عليه فهو منبوذ. فنظرتها للجمال كانت شديدة التطرف، فقد كتمت حنقها واستياءها يومًا حين أجلست معلمة الفرنسية بجانبها على الطاولة فتاة غير جميلة؛ فأصيبت صديقتنا بدوار خفيف، وبدأ الهلع يدب في أواصرها وهي تنظر لتلك الفتاة، وقد اسود المكان من حولها وكأنها نهاية العالم قد حلت. أما تلك الفتاة فقد كانت تنظر لصديقتنا وهي تبتسم بحرارة لأنها أُجْلِسَت في الطاولة الأولى وأمام السبورة مباشرة، أما صاحبتنا فقد كان الهلع قد تمكَّن منها حتى إنها أوقفت دمعتها وهي تنزل، وحين عودتها للبيت أجهشت بالبكاء بكاءً حارًّا ينم عن عنفوان الإيغو الذي يسكن المرء.
اقرأ أيضًا: خاطرة "أنا والنَّاس وهواهم".. خواطر أدبية
في الواقع من الصعب أن يتحدث المرء عن غروره أحيانًا، لكن حين يقرِّر ذلك تصبح الأمور كمثل ذلك الشلال الذي يصب من علو شاهق، ولا أحد يستطيع إيقافه، فصديقتنا حين تستذكر أيام الطفولة ومرحلتها الابتدائية أين كانت تحمل فكرًا خاطئًا عن الجمال تجد أنها كانت تعتبره لباسًا جميلًا مع وجه أجمل وتكتمل الصورة، أما الآن فقد أدركت كثيرًا من الأمور لتتحقق أن الجمال والبشاعة هي من صنيع الإنسان، فمن يحمل جمال الروح سيرى الجمال أينما ولَّى بصره، ومن تسكنه روح بشعة فحتمًا سيرى البشاعة في كل مكان.
حقيقة هي تتذكر ذلك بنوع من الحكمة، فقد كانت نظرتها ضيِّقة، حتى إنها أضيق من سَّمِّ الإبرة، أما الآن فهي تسعى جاهدة لأن يتسع أفقها وأن تدرك حكمة اللَّه في تدبير شؤون الخلق، فحين كبرت أيقنت أن الجمال هو فكرة يحملها المرء في قلبه، وهي تبرز للعلن على قدر ما يحمله في روحه.
لكن ولأن الإنسان يعيش دومًا اختبارات حياتية يضعه اللَّه فيها من أجل الارتقاء والتعرف على ذاته، فقد انتقل خوفها إلى عدم حصولها على ما تريد كوظيفة مثلًا أو حتى رزق تسعى إليه وتخاف ألا تحصل عليه، فكانت وهي في سيرها على هذا الدرب فاقدة البصيرة ولا تعلم أن اللَّه هو من بيده مقاليد الحكم، فمن حين لآخر كانت تصيبها الخيبة والحيرة معًا وتتساءل: لماذا يحدث ذلك؟
لتدرك في النهاية أنها هي من عليها أن تبحث عنها Hereself وتدرك مكنوناتها، وما وسيلتها في ذلك إلا أن تقترب من خالقها؛ ليريها الدرب وينير لها الطريق لتصبح أقوى ويتلاشى ذلك الخوف، حتى إنها تتذكر وبنوع من الفخر حين كانت تعمل لدى مرفق عمومي وقد قارب عقدها على النهاية مع مجموعة من الزميلات، وكان المسؤول متعجرفًا وأراد أن يسرحهن من العمل وقد بقي على مدة العقد أيام لا غير، فبدأ بترهيب الفتيات بأن عليهن أن يغادرن مكان العمل وإلا استدعى الأمن، فما كان منهن إلا أن صعدن إليه من أجل استعطافه، أما هو فقد ازداد تعجرفًا فَخِفْنَ وغادرن المكان وبدون رجعة.
لقد كانت هادئة ولم تلحق الركب ولم تبالي، بل انتبهت لتلك القوة التي تملكتها ولم تدرك مصدرها، لتتأكد بعدها أن يد اللَّه هي من كانت تربت على كتفها وتدعوها لأن تتحلى بالإيمان والشجاعة. فقد عزمت على ألا تغادر مكانها إلى غاية نهاية العقد، وألا تنصت لتلك التهديدات؛ فهي مجرد ضغط نفسي يمارسه البعض لغاية في نفس يعقوب، فما كان إلا أن أتمت تلك المدة القانونية للعقد وبدون غياب يُذكر لتُدرك أن اللَّه قد هيأ لها مكانًا آخر وبعقد آخر وتجربة أخرى واختبارات أخرى.
اقرأ أيضًا: "تأملات صباحية".. خواطر أدبية
ومن غرائب الصدف أن صديقتنا مع أنها لا تؤمن بفكرة الصدفة لكن جاء اليوم الذي طُلِبَ منها أن تعود لذلك المرفق العمومي الذي غادرته، لكنها رفضت؛ لأنها شعرت أنها لن تجد ذاتها هناك، ولن تستفيد أو حتى تنال إضافة لشخصيتها، لذلك اعتذرت عن العودة مع أن المكان قريب من مقر سكناها، وآثرت أن تبقى في المكان الذي فتح لها كثيرًا من الآفاق وبمدينة أخرى، لقد أحست وللمرة الأولى أنها لم تعد تخشى رزقها؛ فالرزاق هو اللَّه، وأنه إذا أعطى أدهش الكون بعطائه.
لقد تحول ذلك الخوف إلى إيمان ويقين بأن اللَّه غالب على أمره، وأنَّ من يتمسك بعروة اللَّه الوثقى لن يتوه أبدًا، ومنذ ذلك الحين بدأت صديقتنا تنظر للأمور بعين المراقب وبأن كل ما يمر على حياة المرء فهو لسبب ما، ومن أجل أن يعي ويدرك ملكوت اللَّه وتسييره لكونه العظيم.
أما وحين توقفت صديقتنا عن الحكم على الناس وجدت سعادتها وعثرت على ضالتها، والأهم من ذلك أنها تعرفت على نفسها داخل كمية الفوضى التي تملأ الأماكن، فقد كانت تلك الفتاة غير الجميلة من منظور صديقتنا تعاني من ضعف في النظر؛ لذلك وضعتها المعلمة في الطاولة الأولى لتتمكن من رؤية السبورة وما تحويه جيدًا، إضافة إلى أنها تلميذة نجيبة ومجتهدة وغير مؤذية، كل هذه الأمور أدركتها صديقتنا بعد أن أنيرت بصيرتها.
لقد كانت تعتقد أن البشاعة معدية، وأنها سوف تصاب بالعدوى فتعديها تلك الزميلة وتصبح غير جميلة؛ لذلك أصابها الهلع حينها، طبعًا هذا الأمر حدث لها وهي ذات سبعة أعوام، أما الآن فهي تضحك من ذلك الموقف. لكن مع ذلك فالأمر يدعو إلى التريُّث والتدبر، فما كانت تحمله صديقتنا من أفكار حول فكرة الجمال هي خاطئة تمامًا، وفيها كثير من المغالطات ربما بسبب تأثرها بالمحيط الذي يرى أن الجمال هو وجه حسن ولباس فاخر، وهي من أخطر الذهنيات التي يتربى عليها الطفل، فيبدأ بالنظر إلى من هو أقل جمالًا على أنه لا يستحق شيئًا.
أما فكرتها عن الخوف فقد تغيرت لتدرك في النهاية أيضًا أنها مجرد فكرة يتغذى بها المرء لتصيبه في النهاية بالشبع لأمور تحبط من عزيمته، وأن ذلك المسؤول هو مجرد شخص ضعيف يحاول إخفاء ضعفه أمام الآخرين، فيبدأ بتصدير وهم الترهيب للآخرين في الوقت الذي أدركت صديقتنا غايته فلم يحاول تخويفها كباقي الزميلات أو الاقتراب منها حتى.
لقد أدركت أن شهاداتها التعليمية التي تحصلت عليها ما هي إلا واجهة لمستواها التعليمي، وليست عنوانًا لشخصيتها وروحها، فكم من حاملين لشهادات عريقة لا يمكن أن تصل معهم إلى أبعد من حديث يدور حول أحوال الطقس، فتراهم فارغين من الداخل ولا يمكنهم مجاراة ومسايرة أحدهم، وبالمقابل فكم من شخص لا يملك شهادات علمية عالية ومع ذلك حين تجالسه تُفاجأ وتنبهر بثقافته الواسعة وكأنني به متخرج من أرقى المعاهد.
اقرأ أيضًا: خاطرة "السعادة مع بائع الفخار".. خواطر أدبية
فلا تجعل رائحة الخوف تلتصق بك لتتمكن منك فيشمها الآخر ويحاول ترهيبك بأدوات وهمية أنت من صنعتها في مخيلتك، في حين هو لا يملك من أمره شيئًا؛ فالأمر للَّه وحده.
وعِش كالطير الحرِّ؛ لأنه وخلال تعثرك فإن اللَّه يرسم لك طريقًا للنهوض والتقدم، فقط عليك أن تُدرك رسالة الكون لك وتعي محتواها، وبماذا يريد إخبارك.
فلتؤمن بنفسك وبقدراتك التي وهبك اللَّه إياها.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.