أتذكر أول لقاء بيننا؟ لم أكن أعي شيئًا منه، ولا أنتِ كذلك. كان مجرد تلاقٍ عابر، نظرات متبادلة بلا معنى، في عالمٍ لم يعنِ لنا شيئًا بعد. لا طموح، لا وعي، سوى تلك النظرات المسروقة، وكأنها الهواية الوحيدة المتاحة في مرحلة لم نملك فيها لا الحُب ولا الرفض.
كبرنا. وتغيَّرت قوانين اللعبة.
زادت المراقبة، وقلَّت النظرات، حتى صار بيننا جدار متهالك، كنت أسمعك من خلفه وأشعر أن صوتك يخصُّني وحدي. كنت أقهقه أحيانًا دون سبب، فقط كي أقول لك: «أنا هنا». أعلم أنها تفاهات، لكن ماذا تنتظر من مكان تافه؟
آخر نظرة كانت منك، لا، لي أنا فقط.
مسروقة. لم تنتبهي. كنتِ منشغلة.
لكنها ظلت محفورة في ذاكرتي: وقفتك المائلة، شعرك الطويل المسدول كدرعٍ يحمي ظهرك، يدك اليمنى تشرح، واليسرى تسند خصرك المتعب من الوقوف. خطواتك الصغيرة، المترددة، وكأنك تريدين الهرب من الحديث، من الموقف، من كل شيء.. حتى من نظرتي.
أتعلمين؟
حين أخبرني أخوكِ أن هناك من جاء يطلب يدك، حزنت.
لا أدري هل كنتِ تريدينه أم لا، لكني أعلم أن لا أحد يسألكن، وإن سألوا، فالجواب واحد: السكوت. لأن السكوت، كما يقولون، علامة رضا.
هكذا نحن.
في مجتمع يرى المرأة مجرد موافقة صامتة، لا رأي لها في الزواج، ولا حتى في إنجاب أطفالها.
هل أنتِ سعيدة الآن؟
هل زواجك مختلف؟
هل وجدتِ فيه شيئًا منكِ؟
أتذكَّر عندما كنا صغارًا، سألتِني: «هل ستتزوجني إذا كبرنا؟».
هربت منك وقلت «لا أدري». كنت صغيرًا، وخائفًا من فكرة الزواج، وها أنا كبرت، وتزوجت بالطريقة نفسها التي تزوجتِ بها.
صار عندي أطفال، مثلك.
لكني تأخرت كثيرًا، حتى خطَّ الشيب رأسي، ليس من العمر، بل من الإرث الثقيل الذي ورثناه.
بالمناسبة، خطبتُ فتاة قبلك، لكنها ماتت.
ربما كانت نجاتها بالموت.
لا أعلم إن كانت ستنجو بي أو مني، لكن حياتي لم تكن يومًا مستقرة. تقلبتُ في الأفكار، والمواقف، والمبادئ. أشياء لا تفيدكِ، ولا تعني لكِ شيئًا، أعرف.
هل لديكِ أطفال كُثر؟
أنا لا أحب كثرتهم.
أحب أن أربي عقلًا، لا أن أُنجِب عددًا.
طفلٌ أو اثنان يتعلمان أفضل من عشرة يتخبطون.
لكن أعلم أيضًا أن قرار الإنجاب ليس بيدك.
في أعينهم، أنتِ (أمٌّ) فقط، بلا صوت، بلا إرادة.
عرفتِ الآن لماذا أصف هذا المجتمع بالتافه؟
لو تزوجتُكِ، ربما كنتِ سترفضينني لاحقًا.
أنا لم أعد ذلك الفتى الذي كنتِ تعرفينه.
ذلك الشخص مات.
أنا إنسان جديد تشكَّل من خيباته، من قراءاته، من ليله الطويل.
الأفكار تغيِّر أصحابها، تهذِّبهم، تمزِّقهم أحيانًا.
ربما أنتِ أيضًا تمتلكين أفكارك.
لكن تقتلينها داخلكِ، لأن التفكير فيها وحده جريمة، ووسواس.
لا أدري، أنا فقط أتخيَّل.
لديَّ الكثير لأقوله، لكنني لن أرسله.
أنتِ، في الغالب، لن تقرئي هذه الكلمات.
وربما... ربما لم تكوني موجودة من الأساس.
فمن أكتب له؟
لا أعلم.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.