إلكترا وأوديب.. بين الميثولوجيا الإغريقية والعقد النفسية

يعيش الإنسان منذ ولادته متأرجحًا بين الوعي واللاوعي، يضطرب أحيانًا ويلملم شتاته أحيانًا أخرى، في كثير من الأوقات لا يستطيع فهم نفسه، يصارع رغباته كي يتقبل الواقع المفروض أم يصارع الواقع من أجل رغباته؟

إن النفس البشرية عالم معقد يوجد جزء داخله غامض ومظلم، وربما مخيف في بعض الأوقات.

قد يعجبك أيضًا سيغموند فرويد وكيف عمل على إثراء علم النفس بتجاربه ونظرياته

سيجموند فرويد مؤسس علم النفس الحديث

مع تقدم العلم قديمًا في مختلف المجالات كالبيولوجيا والكيمياء والطبيعة والطب، لكن النفس البشرية ظلت عالمًا مغلقًا مبهمًا، لا أحد استطاع الاقتراب منه أو معرفة كينونته.

حتى النصف الأول من القرن العشرين، عندما بدأ العالم النمساوي سيجموند فرويد في الغوص داخل العمق السيكولوجي للإنسان، وأخرج لنا كثيرًا من النظريات والتفسيرات التي ألقت الضوء على ذلك العالم الغامض.

قد يعجبك أيضًا مفهوم الوعي وعدم الوعي عند فرويد

الدوافع الأساسية للسلوك البشري

أوضح فرويد في تحليلاته أن الدوافع الأساسية للسلوك البشري هي الغرائز، ومنها غريزتان أساسيتان تتحكمان في السلوك البشري هما غريزة الحياة وغريزة الموت.

فيرى فرويد أن الغرائز الفطرية التي تنشأ منذ ولادة الإنسان هي المحرك الرئيس للسلوك البشري.

وبيَّن العالم النمساوي في نظرياته مدى تأثير اللاوعي وهو القوى غير المرئية التي يمتلكها الإنسان على سلوك الفرد وتفكيره، وأطلق على اللاوعي اسم "العقل الباطني"، الذي شبهه بالبئر الممتلئ بالأحاسيس والمشاعر والذكريات.

قد يعجبك أيضًا اختبار نفسي عبقري لسيجموند فرويد.. أي إنسان أنت؟

عناصر شخصية الإنسان

وقد قسَّم فرويد شخصية الإنسان إلى ثلاثة عناصر أساسية تخلق السلوك الإنساني المعقد.

العنصر الأول هو: "الهو" وهو مكون عدم الوعي النفسي الموجود داخل العقل البشري منذ الولادة الذي يتضمن السلوك الفطري ورغبات الإنسان وغرائزه.

أما العنصر الثاني فهو "الأنا"، وهو الجزء المطور من "الهو" المسؤول عن التعامل مع الواقع وتلبية الاحتياجات بطريقة تخضع إلى المنطق، ووضع فرويد مثالًا مبسطًا للعلاقة بين "الهو" و"الأنا" فقد شبه الهو بالحصان والأنا بالفارس الذي يمتطيه، فإن كانت رغبات الإنسان وغرائزه تتمثل في الحصان فإن الفارس هو من يتولى مهام توجيهه وإرشاده.

أما العنصر الثالث للشخصية فهو "الأنا العليا" وهو المسؤول عن الشعور بالخطأ والصواب وفق مفاهيم المجتمع الذي نشأ فيه الفرد، ويكون منقسمًا إلى قسمين الضمير والأنا المثالية.

قد يعجبك أيضًا ألهو.. ألهي.. الأنا السفلي والأنا الأعلى "سيغموند فرويد"

عقدة أوديب

واستطاع فرويد عن طريق نظرياته في علم السيكولوجى أن يصل للعقد النفسية التي يخلقها اللاوعي داخل شخصية الإنسان، ومن أشهر العقد النفسية التي تحدث عنها "عقدة أوديب" وهي مشاعر الحب التي يكنها الإنسان لأمه وغيرته من والده.

وأصبحت تلك العقدة تدرس في الطب والتحليل النفسي، وهي لا تعد مرضًا أو اضطرابًا نفسيًّا لكنها مرحلة يمر بها الإنسان تشكِّل شخصيته وتؤثر في حياته.

ولكن لماذا هذا الاسم بالذات؟ من أوديب هذا؟ وكيف ربط فرويد بين هذا الشخص وبين عقدة نفسية لدى الإنسان؟

قد يعجبك أيضًا النقد الأدبي وعلم النفس.. ما العلاقة بينهم؟

الأسطورة الإغريقية

كانت بداية الكشف عن تلك العقدة عندما حضر فرويد مسرحية "أوديب الملك - سوفوكل" وفي أثناء مشاهدته للمسرحية كان يراقب صدمة المشاهدين وتفاعلهم مع القصة على الرغم من غرابتها، وكانت تحكي عن أسطورة إغريقية قديمة تتناول حياة أحد الملوك الذي قتل أباه وتزوج أمه.

وتبدأ أحداث القصة عندما أنجبت الملكة جوكاستا زوجة الملك لايوس ولدًا وفرح الملك بهذا الخبر السعيد وانتظر وصول المولود، فهو أول مولود لهما، وكانا قد ظلَّا مدة طويلة دون إنجاب.

نبوءة كاهنة

والأسطورة تقول إن الإغريق عند ولادة الطفل يصطحبونه إلى معبد أبولو ويقع في دلفي، وذلك لمعرفة مستقبل وطالع الطفل، واشتهرت كاهنة المعبد بصدق تنبؤاتها.

وعندما وقع نظر الكاهنة على الطفل أخبرت الملك لايوس أن هذا الطفل ليس إلا نذير شؤم له، وعندما يكبر ستكون نهايته على يديه ويقتله، والشيء المريب الذي أخبرت به الكاهنة الملك أن هذا الطفل سيتزوج من والدته في المستقبل.

قد يعجبك أيضًا تحليل شخصية المجرم السايكوباثي في علم الجريمة

محاولة التخلص من الطفل

وعند سماع الملك لايوس هذا الأمر من كاهنة المعبد قرر أن يتخلص من الطفل على الفور بإعطائه لأول شخص يقابله. وانطلق لتنفيذ مخططه والبحث عن شخص يقتل الطفل، وفي طريقه وجد راعيًا للأغنام، طلب الملك من راعي الأغنام أن يتخلص من الطفل وأن يلقيه من فوق الجبل.

الملك يتبنى أوديب

وبعد ذهاب الملك لم يستطع الراعي قتل الطفل وشعر بالعطف تجاه الصغير البريء، وعاد الملك لايوس إلى زوجته وأخبرها أن الطفل مات، معتقدًا أن الراعي نفذ المهمة التي كلفه بها، ولكن الراعي كان قد أعطى الطفل لراعٍ آخر يتولى أمره.

كان هذا الراعي يعمل لدى ملك آخر يدعى بوليبيوس، وكان هذا الملك يعاني عدم الإنجاب هو وزوجته ميلوب، فوهب الراعي الطفل للملك بوليبيوس وزوجته اللذين ربَّياه وأطلقوا عليه اسم أوديب.

مرت سنوات، وقد صار أوديب شابًّا قويًّا يافعًا. وفي أحد الأيام حينما كان يمشي في الطريق قابله رجل مخمور أخبره أنه لقيط.

شعر أوديب بالحيرة وأسرع إلى الملك بوليبيوس وزوجته وأخبرهما بما سمعه من الرجل السكير، لكنهما أنكرا كلام الرجل، فأراد أوديب التحقق من الأمر وذهب إلى العرافة في معبد أبولو حتى يعرف منها طالعه.

قد يعجبك أيضًا رواية عقدة أوديب من روائع الأدب الإغريقي

أوديب يقتل والده

ولكن العرافة زادت من حيرته بنبوءتها الغريبة؛ فقد أخبرته بأنه سوف يقتل والده ثم يتزوج من أمه، فشعر أوديب بالخوف وقرر الهرب خارج بلدته التي يوجد بها والداه اللذان ربَّياه معتقدًا أنه يهرب من ذلك المصير المشؤوم الذي ينتظره، ولم يكن يدري بأنه ذاهب إلى قدره المحتوم.

وحين كان أوديب في طريقه إلى مكان آخر قابل رجلًا كبيرًا في السن، وتجاذب معه الحديث، فاختلف أوديب معه في أمر ما أدى إلى مشاجرة عنيفة بينهما انتهت بقتل أوديب للرجل المسن، ولم يكن هذا الرجل في الحقيقة سوى الملك لايوس ملك طيبة (والده الحقيقي)، وحينئذ حقَّق أوديب جزءًا من النبوءة دون أن يدري.

زواجه من والدته

وتقول الأسطورة إن أوديب عندما اقترب من مدينة طيبة وحاول أن يدخلها قابل وحش أبو الهول الذي كان حارسًا على المدينة، ولا يستطيع أحد دخولها إلا بعد أن يجيب على ألغاز الوحش المعقدة.

وسأله أبو الهول: من الذي يمشي على أربع عند الصباح واثنتين بعد الظهر وثلاثة عند المساء؟ فأجاب أوديب الإجابة الصحيحة، فقد قال: الإنسان.

فهو يحبو على أربع وهو طفل، ويمشي على قدمين في شبابه، ثم يستخدم عصا تساعده في المشي في سن الشيخوخة، وحينئذ سمح الوحش أبو الهول لأوديب أن يدخل طيبة مرحبًا به.

وعندما دخل أوديب إلى طيبة وجد حالة من الهرج والمرج تسودها بعد اختفاء الملك لايوس.

وكان سكانها قد اتفقوا على أن أول من يدخل المدينة ويستطيع أن ينجو من الوحش أبو الهول هو من يستحق أن يكون ملكًا عليهم، فكان أوديب أول من دخل طيبة، فكان قرارهم أن يتزوج من ملكتهم جوكاستا ونصَّبوه ملكًا عليهم، وتحقق جزء آخر من النبوءة وهو زواج أوديب من والدته.

قد يعجبك أيضًا شيزلونج 1 حول مفهوم الشخصية 2/3

البحث عن قاتل الملك لايوس

وبعد مدة عانت القرية من مجاعة شديدة، واستدعى أوديب عرافة أبولو، وعندما جاءت أخبرته أن المدينة أصبحت ملعونة، ولن تذهب عنها اللعنة إلا بالعثور على قاتل الملك لايوس، فأقسم أوديب على أن يجده ويعاقبه بفقء عينه ويطرده خارج المدينة.

وقرر أوديب الاستعانة بعراف يدعى تريسياس حتى يخبره عن مكان قاتل الملك لايوس، وكانت المفاجأة عند علم أوديب من العراف أنه هو من قتل الملك السابق.

وحزن أوديب بعد معرفته هذا الأمر من العراف، وكانت الصدمة الأكبر لأوديب عندما وصل رسول من مدينته وهو راعي الملك الذي رباه يخبره بموت أبيه الملك بوليبوس، ويحزن أوديب حزنًا شديدًا على الرغم من فرحته بعدم تحقق النبوءة، وأن أباه لم يمت على يده.

اكتشاف الحقيقة

بكى أوديب كثيرًا وهو يخبر زوجته بأنه نجح فى الهروب من قدره، وأنه لم يقتل والده كما تنبأ العرافون، ولكن راعي الملك الذي رباه كان قريبًا منه وهو يحكي قصته، فأخبره أن الملك بوليبيوس ليس والده الحقيقي، وأنه قد حصل عليه من راعي الملك لايوس الذي أخبره أنه يجب عليه قتله، لكن الراعي لم يستطع ذلك.

وقعت كلمات الراعي كالصاعقة على جوكاستا التي فهمت أن الذي يقف أمامها هو ابنها الذي ادعى زوجها موته، وشعرت بالعار لأنها تزوجت من ابنها وأنجبت منه، فدخلت على الفور إلى غرفتها وأغلقت الباب ثم شنقت نفسها.

قد يعجبك أيضًا احذر.. مخاطر الإيجو على نفسك وعلى من حولك إذا لم ترتق سريعاً بالوعي!

العقاب

كان أوديب يسمع كلمات الراعي وهو مذهول. فقد تحققت نبوءة العرافة، فهو قاتل والده وتزوج من جوكاستا أمه، فهرع على الفور لغرفتها فوجدها قد ماتت.

جلس أوديب بجانبها يبكي عليها ثم تذكر قسمه فأحضر دبوسًا من قميص أمه وفقأ عينيه ثم خرج هائمًا على وجهه يمشي في الطريق بلا مرشد ولا صاحب.

وهذه هي أسطورة ومأساة أوديب التي استوحى منها سيجموند فرويد اسم المرض النفسي تعلق الطفل بوالدته.

تعلق فرويد بوالدته

ربط فرويد بين أسطورة أوديب وعقدة تعلق الطفل بوالدته التي تتكون داخله منذ مراحل طفولته الأولى، وقد اعترف فرويد نفسه أنه أيضًا كانت لديه تلك العقدة، فقد كان شديد الارتباط والتعلق بوالدته، وكان يشعر بالغيرة من والده؛ لأن أمه كانت تهتم به هو الآخر وتلبي طلباته.

قد يعجبك أيضًا علاقة النرجسية بالطفولة المبكرة والمراهقة وهل النرجسية مرض نفسي؟

عقدة إلكترا

وعلى نقيض عقدة أوديب وضع العالم النمساوي سيجموند فرويد نظرية أخرى حول سيطرة عدم الوعي على الإنسان وجذبه للتعلق بأحد آبائه دون الآخر، وهي نظرية انجذاب الفتاة نحو الأب وتعلقها به وغيرتها من الأم وشعورها بالتنافس معها، وتسمى تلك العقدة بعقدة إلكترا.

قد يعجبك أيضًا ملخص كتاب الكل يكذب لـ"سيث ستيفنز"

أسطورة إلكترا اليونانية

وفيما يبدو أن فرويد استوحى اسم إلكترا أيضًا من الميثولوجيا اليونانية، وإلكترا هي ابنة الملك أجاممنون بطل حرب طروادة، تعرض والدها للقتل على يدي أمها وعشيقها.

فساعدت إلكترا شقيقها أوريتس على الهرب، وبعد سنوات عاد وكان قد أصبح شابًّا وخطط مع إلكترا للانتقام من أمهما وعشيقها، وقتلاهما ثأرًا لوالدهما، ثم تزوجت إلكترا من صديق شقيقها المقرب.

استطاع فرويد بنظرياته السيكولوجية أن يوضح كثيرًا من الغموض الذي يغلف النفس البشرية، وما توصل إليه أسهم في علاج كثير من الأمراض النفسية، وخلال حياة الإنسان يمر باضطرابات مثل القلق والمرض والألم والأرق والفشل والإحباط.

تلك الاضطرابات تضغط على الوعي عنده، فيبدأ عدم الوعي في السيطرة على تصرفاته، ومن ذلك يأتي المرض النفسي.

ويقول فرويد عن فائدة العلاج النفسي "إن الهدف من العلاج النفسي هو مساعدة الشخص على التغلب على البؤس العصابي حتى يتمكن من التعامل مع التعاسة البشرية الطبيعية".