ينتمي الجَمال بوصفه ظاهرة معيارية إلى الفلسفة، وتحديدًا إلى النظرة العامة للتفلسف بحكم مقاييس الجمال الكامنة لدينا جميعًا، الجمال مثلُه مثل الأخلاق يدخل حيز ما يجب أنْ يكون، أي إننا نتطلع إلى الشيء الجميل، لكوننا نتمثل مقاييس بعينها تجاهه، ونقول إنَّ هذا المشهد أو ذاك جميلٌ؛ لأنه يتوافر على سماتٍ معينةٍ دون سماتٍ أخرى، ويظل التطلُّع نحوه كالقدرة على شحذ ذائقتنا إزاء الموضوعات المختلفة.
ومن ثمَّ، يتقاطع علم الجمال مع مساحة الفلسفة ضمن هذا الجانب، فهو حقل معرفي يرجع إلى الإحساس الجمالي بالأشياء والعالم والوجود والطبيعة. وهي موضوعات الفلسفة الأثيرة كما هو مشهور. فالأشياء «تتقطَّر» دلالةً عن طريق التذوق والحس الجماليين إلى محدداتٍ للخبرة الحياتية، حتى إنَّها تمثل بُعدًا من أبعاد القيمة لدينا نحن البشر.
القيمة الثالثة للجمال
القيمة هي المبحث الثالث فلسفيًّا بعدَ مبحثي الوجود والمعرفة. بلغة اصطلاحيةٍ، القيمة هي مجال الأكسيولوجيا Axiology بعد الإبستمولوجيا (نظرية المعرفة Epistemology) والأنطولوجيا (الوجود Ontology) عبر تاريخ الفلسفة.
وفي حالة لو غَضَّ الإنسانُ نظرَه التأملي عن هذه الأشياء، ستظهر أبعاد القيم السابقة على هيئة خلفيات تُضفي على الأشياء والأفعال دلالةً ومغزى، ويصبح الإنسان معنيًّا بما تُمثل تلك الخلفيات داخل المجتمع واللغة والتاريخ، وستبدو مهمة في رؤيتنا للعالم.
إن الدلالة تعطي الإنسان (براحًا جماليًا) من جهة كيفية العيش وممارسة الحياة، فهو كائن باحث عن المعنى، عن الجمال، عن المغزى العميق لوجوده، تحت كافة الإكراهات تقبع هذه القيم الحرة داعية إياه إلى مقاومة القبح ودفع القيود جانبًا.
في رصيد المعجم اللغوي اليوناني، كان الجَمالُ يعني الأستطيقا Aesthetics، ويشير في دلالته المبدئية إلى «الإدراك الحسي perception» تجاه الأشياء، والاشتراك معها في تجربة معيشةٍ. ولا أدل على ذلك من أنَّ اللوغوس Logos كان يشير في الثقافة اليونانية إلى الكلام speech، وهو ليس أيَّ كلام متى جاء، بل هو تجربة «الكلام مع »، أي التكلُّم مع شيءٍ أو كائن أو حقيقةٍ لها حضور حسي.
عندما يتكلم الإنسانُ مع تلك المفردات، فإنَّ هناك «علاقةَ جمْعٍ» بين المتكلم والمتلقي، أي لا يجمعهما إلاَّ علامات منطوقةٌ. وإذْ يتكلم الإنسان، يكون في حضرة من يكلمه وجهًا لوجه، أي يدخل معه في دلالة حضور، إنَّ كل كلام هو شكل تواصلي بين طرفين أو أكثر لا من طرف واحد. على هذا المنوال، فالحس الجمالي يتجلى بهذا التنويع: «حس مع» أو «حس بـ» أو «حس تجاه»، وذلك يؤدي إلى أن يعيش الإنسان تجربة تذوق بطريقةٍ من الطرق.
- «حسٌ مع» هو تجرية إحساسٍ مع شيءٍ ما، أنْ نكون في تجربة سماع موسيقى أو غيرها.
- «حسٌ بـ» هو الشعور بتجربة الحس على مستوى الأثر الواقع لدينا، فالحس هنا المادة المشتركة التي نتذوق بواسطتها الموضوع الجمالي.
- «حسٌ تجاه» قدرة تبلور الإدراك الحسي إزاء شيء ما، مثل مشاهدة المسرح والاستمتاع بالصورة والتفاصيل التي تجسد العمل المسرحي.
وبناءً عليه، فإنَّ هنالك حقيقةً ما دالةً قد يفترضها الجمال افتراضًا عندما (يحس) الإنسان بموضوع جمالي. ومع ذلك لا يستمر افتراض الحقيقة دون السؤال عن ماهية الإبقاء عليها وإمكانية وجودها إلينا، فقد تتأخر الحقيقة أو تتخفى رويدًا لتظهر الدلالة متعلقة بقيم الإنسان، وهي القيم الكبرى في الحياة (الخير – الحق – الجمال).
الحس الجمالي
وفيما بعد طالما أن الإنسان يشعر بنوع من الدلالة أو غيرها، فهي مصدر الإحساس تجاه هذه الحقيقة. بالأحرى تجدد الدلالة زخم الحقيقة التي يتمثلها الجمال بين الذوات. ذلك أنَّ «الحس مع» هو تجربة جمالية مع الطبيعة أو الكائنات أو الأشياء في مظاهرها المتنوعة لترتد إلى كونها معنى، و«الحس بــ» هو إحساس بالآخر ووضع الشعور في مستوى تاريخي موازٍ لمغزى وجوده كما يقول الفيلسوف الألماني فيلهلم دلتاي في كتابه «مقدمة إلى الدراسات الإنسانية»، بينما «الحس تجاه كذا» هو تمثُّل صوب كائن متعالٍ بالمعنى الميتافيزيقي أو صوب مشهد ما قابل للتذوق.
ومثلما يرى مارتن هيدجر: إذا كانت اللغةُ هي التي تحمل تاريخَ الفلسفةِ، فإن الحسَّ الجمالي يعبرُ عن ماهية القيمة الجمالية الممنوحة في تجربة أو أخرى على هيئة صورةٍ.
والصور مرتبطة بمستويات المعنى لدينا، لرب صورة لا قيمة لها عند البعض ولكنها لدى بعض آخر تأخذ إطار القداسة أو التذوق الجمالي النادر، وذلك مرهون بقدرتنا على الإحساس بالمعنى، إذن لا بد من التنقيب حول ما يجعل الجميل جميلًا؟ وما الذي يوفر المفاهيم التي تقف خلف الموضوعات الجمالية؟
إن التحليل الفلسفي الجمالي لا يسير في الهواء، أي ليس علم الجمال نظريةً في حد ذاته على الرغم من تعدد اتجاهاته ومذاهبه، لكن المهم عندما ندرسه يجب أن نستحضر ونفكر في الخلفية الفلسفية التي ينهض عليها، ويجب بذل المحاولة تلو المحاولة لمعرفة نقد معايير الجميل وأسسه. أي لا بد أن نعرف المذاهب الفكرية التي تكوِّن رؤى الفلاسفة، لكي نعرف مبررات الموضوع الجميل وشروطه، وذلك أيضًا لكي ندرك -على سبيل التوضيح- العلاقة بين الجمال والمفاهيم الأخرى، كمفاهيم المثال والطبيعة والحقيقة والفن والسياسة والرمز والمقدس وغيرها؛ لأن هذه الأخيرة تتداخل مع الجميل بصورة أو بأخرى.
رؤية فلسفية لعلم الجمال
معنى ذلك أنَّ علم الجمال في (مرتبةٍ وسيطةٍ) بين الرؤية الفلسفية والموضوعات التي يحللها، فهو يستعمل مفاهيم وأدوات الفلسفةِ في تحليل وتبرير ما ليس فلسفيًا، والجدير بالذكر أنه لكي نعرف كُنه علم الجمال يجب علينا أن نتعلم تقنياته الفلسفية أو نذكر الأمثلة الشعرية أو الفنية أو اللغوية التي تنطبق عليها، وذلك حتى نستطيع تبرير المواد (المفاهيم، الموضوعات) غير الفلسفية في أكثر من مجالٍ قريب أو بعيد.
وفي أثناء تحقق المستوى الجمالي يمكن له أن ينقل أشياءً غيره مثل التصورات السياسية أو الحقائق الاجتماعية، ولعل ذلك يتضح بفضل المدارس الفنية الجمالية، مثل الرومانسية، أو الانطباعية أو الفوضوية، أو الماركسية. فهي مدارس نشأت ومارست دورها في سياق فلسفي له معطياته السياسية والتاريخية، ولم تبتعد عن مشكلات العصر الذي وجدت فيه.
إن مادة علم الجمال -بوصفها تحليلًا فلسفيًا لجماليات النصوص واللغة والطبيعة والفنون والممارسات الثقافية- تتيح لنا فرصةً لاستعمال ذلك المنهج الكشفي، وبذلك سنعرف في أثناء مطالعة القضايا الجمالية: لماذا يستخدم بعض النقاد وسائط فنية كالشعر والرواية والأسطورة والمسرحية وغيرها، أو لماذا يستخدمون أية مادة ثقافية مكتوبةً أو منطوقةً كمادة للتفكير الفلسفي الجمالي؟!
بذلك يمكن معرفة أفكار علم الجمال فلسفيًا كمنطلقات نظرية لتحليل موضوعات متفرقة كما ذكرت، لقد كانت تلك الأفكار شغل الفلاسفة الشاغل لرؤية جوانب الطبيعة، والأشكال الفنية، والفعاليات الإنسانية. نفهم منها بالدرجة ذاتها أن تلك الموضوعات تلبس أرديةً ثقافيةً أو اجتماعيةً، وأن الجمال لا ينسلخ بعيدًا عن فحوى الأشياء والممارسات؛ لأن الجمال جزء (دلالة) من وجودنا الإنساني في جميع مناحيه وإن غاب موضوعه المباشر.
لا موضوع جمالي خام خارج هذا الفهم، لا موضوع جمالي يحتاج إلى طهي فوق نار غريبة غير ذائقتنا. ونعرف من ذلك أيضًا: كيف يفكر المجتمع في قضايا الجمال من منظوره الفلسفي كليًّا؟! أكاد أقول إنه في جميع الأحوال يصعب دراسة مذهب جمالي لأي فيلسوف من غير الاطلاع على منطلقاته الفلسفية.
هذا ما سنؤكده لدى أفلاطون وأرسطو وكانط.. وصولًا إلى جماليات الحداثة وما بعد الحداثة، وسيحكم التحليل من جهةٍ، وسيعيد تكوين المواد التي يحللها من جهةٍ أخرى.
السؤال المهم اختصارًا: بأية صيغة يكون الجميل جميلًا؟ ثمة مقولة شائعة مأخوذة من شعر إيليا أبي ماضي، لكنها تبلغ درجة من العمق والوضوح معًا: «كن جميلًا ترَ الوجود جميلًا». أي إنَّ الجمال يعود إلى الإنسان القاطن داخلنا، هو من يحكم ويعاير ويرى الأشياء من زاويته المفتوحة. والجمال غاية لا وسيلة، معنى لا مادة، قدرة على الإحساس لا مجرد إدراك؛ لأن المعايير داخلية والتقييم يبدو مأخُوذًا بدلالة الجمال إنْ وجدت.
يؤكد أبو ماضي تلك الفكرة: «والذي نفسه بغير جمال، لا يرى في الوجود شيئًا جميلًا» فالمعاملة بالمثل مع القيم الكبرى في حياتنا، لا ينتج الجمال الداخلي إلا جمالًا.. كيف لمن لا يشعر بدلالة الجمال أن يجد شيئًا من ذلك. بل قد لا يرى أي شيء، فالبوصلة التي تسمى الدلالة بوصلة مشطوبة العلامات وحائرة بين أشياءٍ بلا قيمةٍ.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.