العلاقة بين الوالدين والأبناء جوهرية في عملية التربية، ولا يمكن تصور تربية دون حب، ولا يمكن أن يحدث ذلك ما لم تكن العلاقة بين الطرفين مبنية على الصداقة قبل الأبوة. وللأسف فإن التربية المعاصرة تفتقد لهذه العلاقة "إذا كبر ولدك خاويه".
في هذه المقالة سوف نتحدث عن 5 أشياء من شأنها أن تجعل الأب والأم هما الصديق الأقرب لأبنائهم من الذكور والإناث.
الحوار والنقاش
في التربية الإيجابية لا مكان لفرض الرأي بالقوة على الطفل بدعوى أنك الأب صاحب الكلمة العليا والوحيدة داخل البيت، هذا إن كنا صادقين فعلًا وتحدونا الرغبة في علاقة قوية بأطفالنا منذ الصغر، خاصة وأن التربية التقليدية القائمة على التسلط وفرض الرأي أثبتت عدم جدواها في كف السلوكيات الخاطئة لدى الأبناء.
الحوار مع الأبناء من هدي الأنبياء، انظر إلى حوار إبراهيم مع ابنه إسماعيل، وحوار نوح مع ابنه العاق في المقابل، هذا يقودنا إلى نقطة غاية في الأهمية، وهي أن الحوار والنقاش مع الأبناء يقرب المسافات ويقلِّل الفجوة الكبيرة التي نراها اليوم بين الآباء والأبناء التي تظهر بوضوح في مرحلة المراهقة.
وتذكر أيها المربي الكريم أن الحوار والنقاش مع الأبناء لا يبدأ بوصولهم مرحلة المراهقة، بل منذ الطفولة المبكرة؛ لأنه وكما يقال "التربية في الصغر كالنقش على الحجر". فالابن الذي اعتاد أسلوب الحوار والنقاش مع أبيه منذ صغره، لا شك أنه سيكبر على هذا الأسلوب في التربية، ويصبح وكأنه روتين حياة، فإذا أهمه شيء أو أحزنه، فزع إلى أبيه يحاوره ويناقشه كي تعود إليه سكينته.
لكي تحاور ابنك، يعني أنك تخصص من وقتك لسماع ما يدور في عقله وقلبه، من أفكار ومشاعر على السواء. فالأب الذي اعتاد الجلوس ولو نصف ساعة يوميًّا مع ولده، يحاوره ويناقشه ويستمع إليه، لا شك في أنه يبني جسورًا من التواصل معه، بحيث إذا بلغ معه السعي، وأقصد هنا مرحلة المراهقة، صار الأب له الصديق المقرب الذي يبوح له بأسراره.
بعض الآباء -أعانهم الله- يصلون عملهم الليل بالنهار، في سبيل توفير لقمة العيش لأبنائهم، لكن هل معنى ذلك أن ننشغل بأمور الرعاية وننسى أهمية التربية!
تذكَّر أخي المربي أن توفير المأكل والملبس والمشرب هذه كلها من أمور الرعاية لطفلك، أما التربية فهي أن تعلمه الصواب من الخطأ، الحلال والحرام، ما يجوز فعله وما لا يجوز فعله، فإن قصرت في ذلك، فقد أهملت تربية ولدك.
الأطفال في سن معينة يبدؤون بالسؤال في أشياء تبدو محرجة للوالدين، أين الله؟ لماذا لا نراه؟ لماذا نصلي؟ أين الجنة؟ أين النار؟ وغيرها من الأسئلة الوجودية، التي تدل على الذكاء الوجودي عند الطفل. وحينئذ على الوالدين ألا يتضايقا من أسئلة أطفالهم الكثيرة خلال مرحلة الطفولة المبكرة، بل العكس تمامًا، أن يشجعاه على طرح الأسئلة، وأن يجيبا عليه إذا كان لديهم الجواب، أو إخباره أنهم سوف يجيبون عن سؤاله في المساء، بعد ما يسألوا أحد المتخصصين ويعرفوا منه الجواب.
أما التهرب من أسئلة الطفل، فأنت تدفع به لأصدقاء السوء أو الإنترنت، وبذلك يكون احتمالية حصوله على جواب مشوه أكبر، بل لا حرج إن أخبرت ولدك أنك سوف تبحث عن الإجابة وتخبره إياها.
توقَّف عن النقد
تحديدًا عندما يصل الطفل مرحلة المراهقة، حين يوجه الوالدان سهام نقدهما لكل تصرف للمراهق، طريقة كلامه، مشيته، تسريحة شعره، صداقاته، لبسه، وغيرها. هل يعتقد الوالدان أنهما بهذه الطريقة يتقربان من ابنهما، أم أنهما يزيدان الفجوة بينهما وبينه، ويبنيان أسوارًا عالية مع ولدهما المراهق.
لماذا لا يسأل الوالدان أنفسهما سؤالًا: لماذا يحب الابن أصدقاءه ويجلس معهم أكثر مما يجلس معنا؟
الجواب بسيط، لأن الأصدقاء يستمعون له باهتمام، يثنون عليه، على طريقة كلامه، تسريحة شعره، شياكته وأناقته، في حين أنكما تنتقدانه باستمرار على كل شيء يفعله أو لم يفعله حتى، هل تتوقع أن ينجذب إليك ولدك بهذه الطريقة؟!
بالتأكيد لا، فأي إنسان يحب مَن يثني عليه، يمتدحه، يشيد به، حتى إن الكاتب الكبير جاري تشابمان في كتابه الماتع "لغات الحب الخمس" يتحدث عن الكلمة الطيبة كلغة من لغات التعبير عن الحب، فالكلمة لها مفعول السحر في الشخص الذي أمامك، وهذا ما يجب أن يدركه الوالدان في التعامل مع ابنهما خاصة في مرحلة المراهقة، هو يفرح بمن يمدحه، يقترب منه، يصادقه.
هل يعني ذلك أن الأب لا ينتقد ابنه في تصرف أو سلوك غير لائق؟ الجواب بالتأكيد بالنفي، انتقد كما يحلو لك، لكن عليك أن تعرف أنه توجد نقطتان غاية في الأهمية قبل أن تنتقد، الأولى أنك إذا أردت أن تنتقد تصرفًا ما عند ابنك، فابدأ بالمدح أولًا، ثم انتقد، الأب الذي لا يعجبه لبس ولده، يبدأ بالقول: حبيبي، أمس كنت ترتدي ثيابًا واسعة وقميصًا جميلًا، لماذا ترتدي هذا الثوب الضيق جدًا اليوم؟!
النقطة الثانية، إذا أردت أن تنتقده، حاوره، ناقشه، تكلم معه، إذا لم يعجبك لبسه، اجلس معه، واستمع لوجهة نظره، لكي تعرف لماذا يفضل هذا اللبس، ثم بيِّن له أن هذا اللبس غير مناسب للأسباب المقنعة التي تخبره بها.
الطريقة العسكرية في التربية إذن، القائمة على الانتقاد على كل صغيرة وكبيرة، تفسد علاقتك بأبنائك، وتكون النتيجة، زيادة الفجوة بينك وبينهم، وتدفع به إلى أصدقاء السوء والإنترنت كي يعرف منهم ويحصل وقتها على معلومات مغلوطة.
الفرص التربوية
في مواقفنا اليومية مع أبنائنا، كثيرًا ما تصدر منهم سلوكيات وتصرفات خاطئة، ربما بقصد أو دون قصد، كأن تطلب من طفلك إحضار كوب ماء، فيسقط منه رغمًا عنه، هذا الموقف فرصة تربوية لنعلم أبناءنا، نسأل الطفل ماذا حدث؟ ما الذي جعله يسقط من يديك؟ ماذا نفعل بعد أن سقط الكوب وانكسر على الأرض؟
هذه كلها فرص تربوية لأن نعلم أبناءنا تحمل المسؤولية، أخطأت، عليك أن تصلح ما أفسدته.
شيء آخر، أو فرصة تربوية أخرى من هذا الموقف، توجد مقولة لكبار السن "انكسر الشر" أو "أخد الشر وراح" وهذه طريقة تربوية للتخفيف من وطأة الموقف سواء على الطفل أو الوالدين.
أتدري ما الذي حدث؟
نحن بذلك نوجه التفكير نحو الإيجابية بدلًا من السلبية والانتقاد والتجريح الذي لن يصلح ما وقع بل يزيد وطأته على النفس سواء للابن أو الوالدين. أنا وبهذه الطريقة أعلم ابني أن أي مصيبة تقع، نأخذ منها الجانب الإيجابي لا السلبي.
التعبير عن الحب
يجب بين الحين والآخر أن تعبر عن حبك لطفلك بالكلام تارة وبالأفعال تارة أخرى، وبالهدايا أيضًا، كل ذلك يعزز العلاقة بينك وبين ابنك. طريقة التعبير عن الحب تختلف للذكور عن الإناث، فالذكور بصريون، أما الإناث فسمعيون.
بمعنى أن البنت تحب أن تسمع الكلام الجميل من الأب والأم، كأن يقول لها الأب مثلًا: "أنتِ حبيبة قلبي"، "أنتِ أجمل هدية بعتها القدر ليا" وأن يرخم اسمها ويناديها بما تحب.
في إحدى الدراسات التي أُجريت على مدارس الفتيات الثانوية، كان من بين الأسئلة: أنا كبرت فمن حقي... (أكملي). كانت المفاجأة وإن شئت فقل الصدمة، أن أكثر من 50 % من الفتيات كانت إجابتهن: أنا كبرت فمن حقي أحب!
ماذا يعني ذلك؟
يعني أن أكثر من نصف الفتيات يعانين من عدم الشعور والتعبير عن الحب داخل البيت، فطبيعي أن يبحثن عنه خارج البيت، وهنا الكارثة، أن تترك ابنتك تبحث عن الحب على النواصي وأمام المدارس من الشباب، أو محادثات الإنترنت، حيث مواقع التواصل الاجتماعي.
البشر كل البشر ثلاثة أنواع، بصريين، وسمعيين، وحسيين، لذا على الوالدين أن يعرفا من أين مدخل الابن/ الابنة حتى يتمكنا من التعامل معه من الجانب الذي يحبه ويفضله. توجد بعض القيم التربوية التي يمكن توصيلها بصريًا، وأخرى سمعيًا، وثالثة حسيًا حسب المتعلم.
ربما في هذه النقطة تحديدًا ويدركها المتزوجون، أن بعض الزوجات تشتكي من قلة حديث زوجها معها، في المقابل، يرد الزوج بأنه يتحدث إليها ويسأل عن أحوالها، لكن ما لا يدركه هذا الزوج أن أقرب طريق للزوجة أذنها، وعلى هذا لا يكفيها كلمة أو كلمتين أو عشرة حتى، هي تريد مزيدًا من الاهتمام من السؤال من الكلام الطيب.
التربية الإيمانية
يحتاج أبناؤنا لتربيتهم إيمانيًا منذ نعومة أظافرهم، لا سيما في العصر الذي نعيشه الذي أصبح فيه الشذوذ والعري والإلحاد حرية شخصية. ما يعني ضرورة تربية الطفل تربية إيمانية وتقوية علاقته بالخالق عز وجل منذ الصغر.
فالذي يحكم العالم الآن هم الغرب المتسلح بالعلم والتكنولوجيا، ونحن العرب الحلقة الأضعف في المنظومة الآن، لذلك توجد قاعدة فلسفية تدرس "منطق القوي قوي، ومنطق الضعيف ضعيف" فالباطل حتى وإن كان على باطل يبقى هو الأقوى طالما امتلك أدوات القوة، والعكس صحيح، أصحاب الحق ضعاف لا يملكون القوة، وعلى هذا موقفهم يصير أضعف.
خلاصة القول.. الاهتمام بخلق علاقة قوية ومتينة بين الوالدين والأبناء تبدأ منذ الصغر، تقوم على مبدأ الحوار والنقاش، وعدم فرض الرأي بالقوة، وانتهاز كل فرصة وموقف لجعله مناسبة تربوية نعلم وندرب الابن بها المعاني الإيجابية، في جو من الحب، ولا ننس الجانب الإيماني الروحي في حياة أبنائنا، في عصر يمتلك فيه الغرب القوة للسيطرة وفرض ثقافته التي تختلف كليًا وجزئيًا مع ثقافتنا العربية.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.