أول قانون بشري.. رحلة البحث عن العدالة عبر التاريخ

منذ الأزل، حمل الإنسان هاجسًا واحدًا: كيف يمكن بناء مجتمع قوي ومستقر؟ عبر التاريخ، كان الجواب دائمًا يدور عن وضع قوانين ولوائح تنظم الحياة وتحفظ التوازن. لكن اللافت للنظر أن الإنسان القديم على الرغم من بدائيته، أدرك أن الأخلاق هي الأساس الحقيقي لتقدم العالم، فكانت أولى التشريعات في التاريخ ذات صبغة أخلاقية تعالج الفساد وتكفل حقوق الفقراء، وتحث على الفضائل.

أقدم القوانين في ذاكرة الإنسانية

قبل أن تنزل الأديان السماوية أو تُعلن الشرائع الإبراهيمية، برزت محاولات الإنسان لصياغة "دساتير أخلاقية لتنظيم شؤون الدولة والمعيشة..

قانون أورنمو: البداية الأولى للتشريع البشري

الذي يُعد أقدم تشريع مكتشف حتى الآن، حيث يعود تاريخه إلى نحو 2100-2050 قبل الميلاد، قبل قانون حمورابي نفسه بـ3 قرون، ويعده بعض الباحثين أقدم قانون بشري. هذا القانون، المكتوب باللغة السومرية، كان اللبنة الأولى للإصلاح المجتمعي، وقد اكتُشف بين مدينتي "نفر" و"أور"، وضعه الملك أورنمو حاكم مدينة أور.

تفاصيل القانون

  • شمل قواعد تحكم العلاقات الاقتصادية، مثل أسعار السلع والخدمات، وحماية الملكية الفردية.
  • فرض عقوبات واضحة على الجرائم مثل السرقة والاعتداء، وكانت العقوبات غالبًا مالية أو تعويضية.
  • ركز القانون على توفير العدالة للفقراء والضعفاء، ما يظهر وعيًا مبكرًا بأهمية المساواة.
  • وفقًا لما جاء في كتاب "القوانين القديمة في الشرق الأدنى"، فإن هذا القانون كان خطوة ثورية في زمنه لأنه أولى أهمية للتوازن بين السلطات والحقوق الفردية.

قانون حمورابي: منهج شامل للعدالة

أما عن "شريعة حمورابي"، فهي الأكثر شهرة على الإطلاق. أصدرها الملك حمورابي، أحد أعظم ملوك بابل، بين عامي 1792 و1750 قبل الميلاد. هذه الشريعة التي تضمنت 282 مادة قانونية، لم تكن مجرد قوانين عادية بل كانت منهجًا اجتماعيًا شاملًا.

وفقًا لدراسة بعنوان "التطوير التاريخي لحقوق الإنسان" للدكتورة شيرزاد أحمد عبد الرحمن، نشرت عام 2012 في مجلة كلية التربية الأساسية العراقية، فإن شريعة حمورابي ركزت على حقوق الإنسان. وتضمنت هذه القوانين حماية الأيتام والأرامل، وقواعد العدل والإنصاف، مع معالجة قضايا معقدة مثل الأسرة والزواج والطلاق والإرث، بل حتى شؤون الجيش والزراعة والقروض.

شريعة حمورابي

وفقًا لدراسة منشورة بعنوان "تاريخ القوانين في الشرق الأدنى"، فإن شريعة حمورابي اعتمدت على مبدأ "العين بالعين"، لكنها كانت تسعى لتحقيق التوازن بين العقوبة والردع، بهدف الحفاظ على استقرار المجتمع.

قانون ماعت: دستور الفضيلة

ماعت، رمز الحق والعدل والنظام الكوني، هي الإلهة التي تجسد أول محامية في تاريخ البشرية، إذ صوّرها المصري القديم في هيئة امرأة جميلة تعلو رأسها ريشة. هذا التصوير لم يكن عشوائيًا، بل كان انعكاسًا لرؤية المصريين القدماء للعدالة كقيمة سامية متجسدة في هيئة أنثوية جميلة.

ماعت ليست مجرد إلهة، بل هي دستور شامل يتألف من اثنين وأربعين مبدأ أخلاقيًا. هذه المبادئ لم تكن فقط شعارات، بل كانت الركيزة التي حافظت على النظام والرقي والتحضر في مصر القديمة، وطن الحضارة الأبدية.

يتطابق عدد مبادئ ماعت مع عدد أقاليم مصر آنذاك، وكأنها رسالة عميقة بأن العدالة يجب أن تكون حاضرة في كل ركن من أركان البلاد. كانت هذه المبادئ بمنزلة دليلٍ للحياة اليومية، تطمح لتحقيقه كل من الفرعون والشعب؛ لأنها تمثل جوهر العدل والنظام الذي يضمن استقرار الكون بأسره.

ومن بين هذه المبادئ السامية: "أنا لم أقتل، ولم أحرّض أحدًا على القتل. أنا لم أرتكب الزنا أو الاغتصاب. لم أسمح للغضب أن يحرقني، ولم أنتقم لنفسي. لم أسبب الإرهاب أو البؤس، ولم أعتدِ على أحد أو أسبب له الألم." كان المصري القديم يدرك تمامًا أن الالتزام بهذه القيم هو السبيل الوحيد للحفاظ على مجتمعٍ متماسكٍ وأخلاقي، ومنذ فجر التاريخ كانت هذه القواعد هي البوصلة التي وجهت حياة المصريين نحو العدل والنقاء.

قانون الفقرات السبع عشرة

الدستور البوذي: بين الفضيلة والسياسة

على الجانب الآخر من العالم، وفي عام 604 ميلادية، ظهر نموذج آخر للدساتير مع الأمير الياباني شوتوكو تايشي، لكنه كان دستورًا مختلفًا تمامًا. الوثيقة التي وضعها لم تكن تعني بالقوانين التقليدية، بل ركزت على الأخلاق والقيم البوذية التي تحكم العلاقة بين الحاكم والمحكوم. من أبرز ما جاء فيها:

الدستور البوذي

  • "على الوزراء والموظفين تبني اللطف أساسًا لسلوكهم".
  • "يجب اتخاذ القرارات بعد التشاور الجماعي لا بشكل فردي".
  • "عند تلقي الأوامر الإمبراطورية، يجب الالتزام بتنفيذها بدقة."
  • هذا الدستور لم يكن مجرد قانون بل كان منظومة أخلاقية، تسعى لضمان حسن سير الدولة بتعزيز الفضائل بين المسؤولين والرعايا.

الأخلاق والدساتير: دروس من الماضي

إذا نظرنا إلى هذه المحطات التاريخية، نجد أن القاسم المشترك بينها هو إدراك أهمية الأخلاق كونها أساسًا للتقدم الإنساني. حتى أقدم التشريعات كانت تتجاوز كونها قوانين جامدة، لتصبح أداة تهدف إلى تهذيب النفوس وضمان العدالة. فهل يمكن أن يكون الحل في يومنا هذا العودة إلى هذه الجذور الأخلاقية، لنجد طريقنا نحو عدالة حقيقية؟

المصادر

  • كتاب "القوانين القديمة في الشرق الأدنى" (Ancient Laws of the Near East).
  • كتاب "تاريخ القوانين في الشرق الأدنى".
  • دراسة "التطوير التاريخي لحقوق الإنسان" للدكتورة شيرزاد أحمد عبد الرحمن.
  • ألواح قانون أورنمو المكتوبة باللغة السومرية.
  • برديات ماعت وألواحها التاريخية.
  • النصوص المتعلقة بدستور الفقرات السبع عشرة للأمير شوتوكو.
  • موسوعة Stanford Encyclopedia of Philosophy..

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.