«أنيس».. قصة قصيرة

كل ليلة تلتحف أحلامي نمطًا من أنماط الرعب، لم تلتحفه من قبل، أرى ما سيحدث، وما لا يمكن حدوثه، فتحاشيت النوم طوال ليالٍ عدّة، حتى لم يعد بوسعي الهروب، ولا باستطاعتي الصبر دونه.

قررت ليلة أن أستسلم للنوم باكرًا، أريد أن تملني الأحلام، وتتركني أرى نفسي مجددًا، فأخذت لحافًا، ووسادة، وارتميت في أحضان العتمة، وأحكمت إغلاق الباب بشدة، إنها المواجهة، فالهروب لم يعد يسعني.

بدأت استحضار أدق التفاصيل عن زيارتها لي قبل ثلاث ليالٍ من الآن، وطلبها الذي ألحت عليَّ به أكثر من مرة، ولم يخيل إليَّ من قبل أنه قد يخطر شيء كهذا على بالها.

مذ رحيلها، لم تمضِ ليلة إلا وهي تملأ أرجاء الغرفة، وتخلق جوًا من الطمأنينة والسكينة، لكنَّها في المرة الماضية، كانت غريبة الأطوار، على غير عادتها، أتت لكنها لم تأتِ بقلبها السمح، ولا بلمساتها الحانية، ولا نظرتها الممتلئة رقةً وعطفًا، وكأن شيئًا قد كدَّر صفوها، وحط على قلبها، أحسست ذلك، لما جلست إلى جنبي الأيسر، وبدأت تتحسسني كوليدها الذي فارقته منذ خمسة عشر يومًا بالضبط، حينما قررت تركنا للضياع، والعتمة، وأصوات الفراغ تغتالنا في كل حين.

وقتها لم يكن حزن "أنيس" أشد مني، لكنني رجل جلد، لا يرضى الرضوخ للحزن، ولا أن يستسلم للبكاء ولو لحظة، مخافة أن يضعف "أنيس" مؤنس القلب ومهجة الروح، أردت أن أغدقه حنانًا، وعطفًا، كي لا يدرك حجم المصيبة، فقد كان في حضوره، ونظراته الطفولية ما يعصمني من الضعف.

اقرأ أيضًا: قصة "سيدة الظلال".. قصص قصيرة

كانت هذه الأحداث كلها تمرُّ أمام عيني، وأنا لا أحرك ساكنًا، حتى أحسست أن ليس بوسعي أن أتماسك من جديد عن البكاء، أغلقت أعيني بشدة، كنت بذلك أهرب من واقعي، ومن صراخ ابني، والنار تعبث به، وهو يصيح "بابا انتشلني بابا بابا بابا..."، حتى تبددت مع الصدى أنفاسه، ولم يبق منه إلا رماد تعبث به الرياح، كما يعبث بي من بعده الوجع.

كل لحظة في غيابه أحس الألم يمخرني، ومع ذلك فالكبرياء ما زال يمنعني من إبداء أي نوع كان من أنواع الألم، فقد مرَّت أيام العزاء كلها، وأنا مبتسم، لم يصدر مني ما يترجم ما أمرُّ به.

لما غادر كل من أتى لواجب العزاء، أردت أن أبقى مع نفسي، وصوت ابني، وهو يحتضر، أريد أن أستشعر أنفاسه، وصرخاته التي ما انفكت تلاحقني كل ليلة، أردت لذلك الصوت الندي الذي طالما استوطن إدراكي أن يكبر أكثر، فأكثر، حتى يبيد الفرح، ويبذر البشاعة في داخلي؛ لذلك لم أجد بدًا من العتمة، فارتميت في أحضانها، وتركت سحائب الدمع تغسل خطيئة الكبرياء، فطوال هذه المدة، والعبرات تخنقني.

الليلة بالتحديد قررت أن أكون رجلًا هشًّا وأن أمارس البكاء، وأعتنق الضعف على غير عادتي، سحبت في واقعي المظلم، ملقيًا بأثقالي على عاتق ست ساعات، لكي أتحرر من دمعتي.

اقرأ أيضًا: قصة "جحا في مدينة الفقراء".. قصص قصيرة

أخيرًا، بين شدٍّ وجذب احتضنت ابني، وحدَّثني عن الموت، عن النار التي التهمته، أخبرني عن أشيائه وعمليات سطوه على النقود التي كنت أتركها في جيبي.

حدَّثني عن إشعاله النار في المطبخ، لإعداد خبز مثل الذي كانت تصنع أمه، قبل أن تختطفها المنون من بين أيدينا.

كان يبحث عن ريحة أمه في الطهي، وبإعداد الخبز، فغلبته النار، كان صغيري يغالب النار ليعيد للبيت وهج أمه، وصدى أنفاسها، فلم يستطع.

حينما كنت أغط في نوم هادئ، يجمعني بأمك، كانت تحدثني عن شوقها لك، وأنها تريدك في غربتها، وأنا متشبث بك لمنعها من ذلك، إلى أن بلغ بي الحد، أن تشاجرت مع أمك -الشيء الذي لم أفعله طوال حياتي-؛ لأنها تريدك.   

وبينما نحن في عراكنا، كل منا يريدك بقوة، انسللت أنت من الغرفة ونحو المطبخ، أشعلت النار، لم فعلت؟

كنت أمسك وسادة، وأشدها إلى صدري ظنا مني أنها أنت، وأن أمك تجذبك نحوها، لأصحو فجأةً على صراخك، وألسنة النار قد التهمت كل شيء من حولك، وبيدي وسادة، قد أثخنها الشدُّ طيلة هذا الحلم.

لمَ يا بني حرمتني منك، كما حرمتني الأقدار من طلة أمك الصباحية، ومن جمعتنا المسائية؟

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة