مرّة أخرى بعد سبع سنوات أعود إلى برنارد ماندفيل! كان لقاؤنا الأوّل في عام 2014 حين ترجمت كتاب ثلاث دراسات حول الأخلاق والفضيلة.
مقالات برنارد ماندفيل
الّذي ضمّ ثلاث مقالات طويلة لماندفيل هي "بحث في أصل الفضيلة الأخلاقيّة"، و"بحث في طبيعة المجتمع"، و"مقال عن المدارس الخيريّة". نُشر الكتاب في سبتمبر من العام نفسه.
في عام 2017 حصلت عن ترجمته له على جائزة الدّولة التّشجيعيّة في الآداب فرع ترجمة الأعمال الفكريّة لعام 2016.
تُقدّم الجائزة في العام التّالي لعام التّقديم لكنّها تحمل رسميًّا تاريخ عام التّقديم، وتلك حكاية أخرى! وفي عام 2017 أيضًا صدرت طبعة أخرى للكتاب ضمن مشروع مكتبة الأسرة في الأردن.
إذن، يمكنني القول إن ماندفيل وكتابه على الرّغم من صعوبة ترجمته كانا مصدريّ سعادة وحظ كبيرين لي.
في العام الماضي اقترح عليّ الصّديق محمد البعليّ مدير دار صفصافة الّتي نُشر عنها كتاب ثلاث دراسات معاودة اللّقاء مع ماندفيل، فكّرت قليلًا وتذكّرت صعوبة التّعامل مع لغة وأسلوب ماندفيل.
اقرأ أيضاً 10 كتب مهمة لسلامة الروح في هذا العصر
أمثولة النحل.. هجوم عنيف
لكنّي كنت أحسّ بشكل ما أنّي مدين للرَّجل بالكثير، لذا فقد وافقت وبحثت واخترت ثلاثة أعمال لترجمتها قصيدته الشّهيرة أمثولة النّحل.
الّتي أثارت ضدّه هجومًا عنيفًا ودفعته لكتابة الكثير من مقالاته ودراساته ردًّا على هذا الهجوم، ومن ضمن هذه المقالات الدّراسات الثّلاث الّتي ترجمتها في كتابي المشار إليه.
العمل الثّاني الّذي اخترت ترجمته هو مجموعة من الأمثولات الّتي كتبها تحت عنوان في ثوب إيسوب في إشارة إلى ذلك الكاتب الإغريقيّ.
الّذي عاش في القرن السّادس قبل الميلاد ونُسبت إليه تلك الحكايات المسمّاة بـ"خرافات إيسوب" ويقال إنّه وُلد عبدًا ولم يكتب الأساطير بنفسه.
لكنَّها أصبحت جزءًا من التّقاليد الشّفويّة لتلاوة القصص الّتي دُوّنت في آخر الأمر من قبل معاصريه.
اقرأ أيضاً ملخص رواية "قصة مدينتين".. من روائع تشارلز ديكنز
تسع وثلاثين أمثولة لماندفيل
يكتب ماندفيل تسع وثلاثين أمثولة أو حكاية خرافيّة ويعترف في مقدّمته أن اثنتين منهما فقط من إبداعه والبقيّة هي معالجة صاغها شعرًا ونثرًا مسجوعًا في أغلبه لحكايات إيسوب.
أمّا العمل الثّالث فهو رسالة إلى ديون وهو آخر ما نشره ماندفيل، وجاءت هذه الرّسالة ردًّا على كتاب بعنوان ألسيفرون.
الفيلسوف الدقيق كتبه الأسقف بيركلي تحت اسم مستعار (ديون)، الّذي حملت إحدى محاوراته هجومًا عنيفًا على ماندفيل وكتابه أمثولة النَّحل.
يدافع ماندفيل هنا عن نفسه وعن كتابه ويوضّح أفكاره ومقاصده بطريقته السَّاخرة واللَّاذعة والجادَّة كذلك.
برنارد ماندفيل فيلسوف وعالم اقتصاد سياسيّ وكاتب ساخر هولنديّ، وُلد في روتردام وفي رواية أخرى دوردريخت في الخامس عشر من نوفمبر عام 1670.
عاش أغلب حياته في إنجلترا وكتب ونشر معظم أعماله بالإنجليزيّة، وقد توفي في عام 1733 بعد إصابته بالإنفلونزا.
اقرأ أيضاً إقبال جماهيري كبير بأول أيام معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته 53
الطاعون وسط الوحوش
ذات مرّة أزعج طاعون كلّ الحيوانات المستأنسة والبرّيّة، جرّبوا كلّ ما في العالم من دواء، لكن أيًّا منه لم يهزم ذلك الدّاء.
رغم أنّه لم يمت الجميع في هذا البلاء، إلّا أنّ أحدًا لم يخلُ منه، في هذه الغمّة أرسل الأسد إعلانه الملكيّ إلى كلّ رعاياه المحبّين يحيّيهم ويستدعيهم إلى اجتماع عام.
عندما مثلوا حول عرينه، قال أسيادي وسادتي، أعتقد أنّكم رأيتم جميعًا وأدركتم مغزى هذا الوباء المهلك، لا شكّ أنّه لم يحلّ علينا من قبل قط مثل هذا العقاب الاستثنائيّ على جرائم شائعة.
لذلك فإنّ أصله لم ينبع من الشّعور العاديّ لدى الأمّة، بل من شر شائن ما، لذا دعونا نفتش في ضمائرنا، وليعترف كلّ واحد بأخطائه، سنحاكم الكبير والصّغير.
ذلك الّذي يتبيّن أنّه الحيوان الأشرّ سنقدّمه أضحية وقربانًا؛ لنهدئ سخط السّماء الغاضبة، ولنقدم لخطايانا كفارة بهذه الطّريقة العتيقة من تقديم القرابين.
لأنّه لا أحد يخلو من الخطيئة، فسأبدأ بنفسي أوّلًا، لقد قتلت ثورًا، والأسوأ من هذا، قتلت حصانًا، وذات يوم بما أنّي آثم فقد أكلت سبعة خنازير على العشاء.
سطوت على غابات، ومستنقعات، ومثل أيّ نهم تغذّيت على قطعان كاملة من الحملان والضّأن، لكن أحيانًا، لأنّه لا فائدة من الكذب.
الراعي ومستشاره الثعلب
كان الرَّاعي يذهب صحبة معهم، كان هذا حديثه، وعندئذ هتف مستشاره الثّعلب وماذا يهمّ أيّ ثور أو حصان؟ بالطّبع لهذه الأشياء التّافهة الشّرف عندما تغدو أدوات رياضة للملوك.
لكن يا سيّدي، إنّ ضميرك ألطف ممّا يجب، الصّيد رياضة الملوك، أمّا بالنّسبة للخراف، تلك الماشية الحمقاء، غير الصّالحة للحمل أو للمعارك.
وبما أنّ لحمها مقبول، فهي غير صالحة لشيء إلّا للأكل، أمّا عن الرّاعي، عدوك اللّدود، فلم يستحق مصيرًا أفضل.
هكذا جرى إبراء ذمة ذلك الّذي كان يحمل إثم عشرين ضحيّة، كذا الدّبّ والنّمر والوحوش الّتي تحارب، وكلّ ما كان باستطاعته أن يخدش أو يعض خرج بريئًا.
لأنّ كل انتهاكاتهم الجسيمة وجد لها الآخرون الأشرار بنفس القدر أعذارًا، حتّى القطّ ذو الطّبيعة الشّريرة الّذي يقتل مخلوقًا مثله على سبيل التّسلية خرج سالمًا دون أذى.
لكنّ حمارًا بليد الذّاكرة اعترف أنّه أثناء ذهابه إلى سوق ستوربريدج، عندما كاد ظهره ينكسر من حمولة الخشب.
تصادف وهو نصف ميت من الجوع وشاعر بالوهن أنّه مرَّ قرب ساحة كنيسة بها عشب ممتاز، كانوا قد نسوا أن يغلقوا البوابة، غامر بالدّخول، وانحنى وأكل، أمسك عند ذلك.
صرخ القاضي الذّئب، لا مزيد، من أجل جرائم كهذه تحقّ علينا مثل هذه الأوقات المهلكة، وفقًا لقوانين البرلمان يعدّ هذا تدنيسًا للمقدّسات، ووافقوا جميعًا، وهكذا جرت التّضحية بالحمار الأحمق العفيف لأكله العشب.
اقرأ أيضاً روايات وكتابات مختلفة للكاتبة مروة الجمل
اليقطينة وجوزة البلوط
قرويّ ساذج مغرور، ألقى ملاحظاته النّيّرة حول ثمرة يقطين، قال: هذه الثّمرة كبيرة جدًّا، ساقها لا تزيد في السُّمك عن غصنين، وتكاد تكون بلا جذور، ولا أوراق كبيرة.
تُرى كيف تأتَّى لأمِّنا الطَّبيعة أن تصنع مثل هذا الخطأ الفادح؟ لو كنت مكانها، لوضعتها على شجرة البلوط العالية هناك.
كنت لأنعم عليها بشرف يزيد على جوز البلوط؛ فهي جوزات أشبه بالنّزوة الطّارئة تكفيها شجيرة صغيرة واطئة، لمَ ينبغِ لشجرة عالية وجميلة هكذا أن تحمل ثمارًا صغيرة لا تليق إلّا بخنزيرة؟ لكن مئة شيء صُنعت هباء.
ممَّا يُظهر أنَّ العالم تشكّل باستعجال، لو بُعثتُ في تلك الأيَّام، لقُضي الأمر على غير هذا الحال كنت سأجعل كلّ شيء متناسقًا، والأشجار الكبيرة كانت ستحمل ثمرًا كبيرًا، هكذا استمرَّ في تأمّلاته، وفي نظره كان المغفل حكيمًا جدًّا.
بعد قليل، اقترب من شجرة بلوط، قمّتها عالية جدًّا، أعجبه المكان ومدَّ جسده المتعب في الظّلّ، لكن ما إن انقلب هذا الحيوان العيَّاب على ظهره.
حتّى سقطت جوزة بلوط، وضربت أنفه ضربة ساحقة، يا إلهي الرّحيم لو كانت هذه هي اليقطينة الآن! الفكرة ذاتها أصابته بالخرس؛ فمدح خالقه، وعاد إلى البيت.
نسيج العالم الهائل ابتدعته براعة خالقه جيّدًا. لا يوجد به شيء إلّا ما هو خير لهذا الّذي يفهم ويعي، وما يناقض الحسّ الإنسانيّ لا يُظهر إلّا كبرياءنا وجهلنا.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.