أمثلة على اللعب الأدبي وحدوده بين مقامات البديع والحريري

اللعب مبدأ فني متبع في نصوص مقامات البديع والحريري على حد السواء، وقد وقعت ملاحظته انطلاقًا مما عدّه مؤلفو هذا الجنس من الكتابة مقومًا من مقومات النصوص المذكورة بعد احتكاك كبير بالنصوص قراءةً وتمعنًا وتحقيقًا ودرسًا لآراء النقاد في كل ذلك.

لكن لا تخرج عنه إلا مقامات الزهاد التي أوردها القالي في الأمالي إضافة إلى مجموع مقامات أبي حامد الغزالي صاحب الإحياء؛ لأنها جد كلها.

على هذا الأساس وبناء على هذا المبدأ يمكننا درس الوعظ في مقامات البديع والحريري بناء على كيفيات تكونه في مقامات مختلفة؛ لذلك يمكننا تصنيف المقامات الوعظية عند البديع والحريري على عد ثنائية راوح على أساسها المؤلفان بين الوعظ المقصود لذاته، وهو الوعظ الحقيقي والوعظ الذي غرضه التكسب.

اقرأ أيضًا: من الجماليات البلاغية في الرسائل النبوية

الوعظ الحقيقي عند الهمذاني (المقامة الوعظية والأهوازية نموذجًا)

الوعظ بين المقامتين حقيقي، والدليل على ذلك هو خاتمة المقامة الوعظية التي تحيل قولًا على الحكمة، وحالًا على ما يتلاءم مع الخطاب الوعظي.

- الراوي عيسى بن هشام: من أنت؟

- البطل أبو الفتح الإسكندري: سبحان الله لم ترض بالحلية (الصورة والهيأة) غيرتها حتى عمدت إلى المعرفة فأنكرتها، أنا أبو الفتح الإسكندري.

- الراوي عيسى بن هشام: حفظك الله، ما هذا الشيب؟

- البطل أبو الفتح الإسكندري: نذير لكنه ساكت، وضيف لكنه شامت، وإشخاص موت، لكنه إلى أن أشيعه ثابت.

 إن السياق هنا هو الذي استدعى أن يكون الوعظ حقيقيًا، وكذلك الأمر وفقًا للمقامة الأهوازية إذ وقوف البطل حاملًا نعشًا لهو أمر يدعو إلى أن تكون الموعظة حقيقية؛ لأن سياقها تلبس بالموت ضرورة، فالوعظ إذن عند البديع لا يكون إلا حقيقيًا.

اقرأ أيضًا: مقامة "الإنسانية".. مقامات أدبية

الوعظ الحقيقي والوعظ الأحبولة عند الحريري

يقترن سياق الوعظ عند الحريري بالخمرة في المقامة الصنعانية (الأولى)، فقد تفاجأ الراوي بالبطل الواعظ متحيلًا سكيرًا، وادّعى السروجي في الساوية أنه واعظ حامل جبائر الكسر، وهي جبائر المكر حقيقة.

إن لعبة الوعظ الأحبولة عند الحريري تتكرر بدءًا من أول مقامة مرورًا بكل مقامة رقم آحادها واحد (1-11-21-31-41-50) وصولا إلى آخرها، وبذلك نسجل انقسامها إلى جزأين؛ الأول كان الوعظ فيه أحبولة.

أما الثاني فيغدو فيه الوعظ حقيقة تعبر عن حال غالبة أو دعوة من البصريين أجيبت، ولعل المقامة الرملية (31) هي التي مهدت لها لأن البطل حجّ خلالها سيرًا على الأقدام، وكان السروجي قد نذر ما نصه ردًا على إلحاح الحارث بن همام أن يكون رفيقه في الحج:

- البطل أبو زيد السروجي: آليت في حجتي هذه ألا أحتقب (المرافقة)، ولا أعتقب (المناوبة بين السير والركوب)، ولا أكتسب ولا أنتسب (إظهار النسب)، ولا أرتفق (الانتفاع)، ولا أرافق، ولا أوافق من ينافق.

إن حلقة الوعظ الأحبولة كانت تروم الاستمرار، فتقابلُ التنيسية (41) في بنائها الحدثي الصنعنانية، وتستمر مع المقامة البصرية في جزئها الأول، إلى أن حصل ما حصل وانقلبت الحيل توبة نصوحًا في الجزء الثاني من المقامة البصرية (50).

لعل قوانين لعبة أحبولة الوعظ تأخذ عند الحريري في هذا المستوى وقفة مؤقتة تلائم سياق الحج والإحرام والحرمة والمواقيت، وما يتطلبه كل ذلك من توبة وإنابة تتشربه المقامة ويتقبله المنطق الفني اللعبي.

فإذا هو (الممكن الضروري) يجتمعان معًا لخلق عالم ممكن آخر هو عالم الجد المرتبط بإكراهات سياق أداء شعيرة الحج الذي فرض الجد تمامًا، كما فرض على البديع في المقامة الوعظية والأهوازية سياق الموت (حمل البطل النعش في الأهوازية) والشيبة (شيبة البطل في الوعظية) أن يكون الوعظ حقيقيًا.

اقرأ أيضًا: مقامة "استيراد البقر من وادي عبقر".. مقامات ساخرة

هكذا يتبلور القانون اللعبي في المقامات الوعظية عند البديع والحريري، فلا لعب في المطلق، وكل مؤلف للمقامات له الصلاحيات الكاملة في التمادي في اللعبة أو في التوقف عنها متى شاء، لكنه لعب له قوانينه الخاصة لا تفهم إلا عند الاحتكاك بالنصوص.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة