كانت سنا باسمة ضاحكة، ذات وجه متفائل منذ طفولتها، مليئة بالحب والحنان والأخلاق التي يشيد بها الجميع، والأجمل أنها أرقى معلمة، وأصبر من يعامل الضعفاء والصغار، وأكثر من يحب العطاء.
ريفية تعلمت من بيئتها كل الرقة، واعتادت أن يثق بها الجميع، ويبادلونها الحب والخير في بيئة صغيرة يحفها الود والبساطة قبل أن تنتقل لبلد آخر مليء بضجيج الغربة وأقنعة الغرباء.
وتبدأ القصة عندما كانت عائدة إلى البيت بعد دوام طويل، حتى تصدم بسيارتها شابًا راكضًا يقطع الطريق ويسقط أمامها، وعندما يصحو تأخذه إلى المشفى لتطمئن على صحته، فيدعي فقدان الذاكرة، ولأنه لا يحمل أي ورقة معه تأخذه إلى البيت، تصدم الجميع بمصيبة من مصائب تسرعها وسذاجتها وطيبتها.
ولم يدرك أحد أنه هارب من الشرطة أصلًا، وقد كان مهاجرًا غير شرعي دخل للبلد. هذا الأمر بالنسبة للأهل كان بسيطًا، يجلس هذا الشاب مع إخوتها، وأبوها الطيب قد أمَّن له عملًا بعد أن رأى منه خلقًا حسنًا.
وقد كان يتعمد أن يوقع سنا في شراك حبه، ويتعمد رؤيتها له ويدعي الصدفة. إلى أن تجرأ للخطبة. اعترض الجميع، واستشاط غضب إخوتها، رفض الأعمام والأخوال وكل من يكن لها الحب.
لطالما تمناها الجميع أن تكون معهم، ولطالما خطبها الجميع ورفضت... كانت أسباب رفضها منطقية، تنم عن عقل راجح، فهي تتمنى شابًا خلوقًا ودودًا، كانت ترى الزواج مشروعًا للحياة وتنتظر أطفالها لتنشئهم على كل خير تعلمته وكل خلق تربت عليه، وتنال بهم أجر الصالحات. لكنها... وللأسف كانت تطلب خيرًا، ولكنها لا تجيد تقدير الأمور.
تصادمت مع أخيها الصغير الذي أحبها، لطالما أحاطته بحنانها، لقد كان وثيق الصلة بها، شديد التعلق والحرص، يخاف عليها كما لو كان أبًا يرعى طفلة. لكنه ساندها في وجه الجميع، لطالما قرنت سعادتها بموافقتهم على هذا الزواج، على الرغم من أنه حذرها؛ فمن تقبل عليه كتاب مغلق غريب لا يظهر من أمره إلا ما أراد.
تم الزواج. كان ذاك الشاب ساحرًا متواضعًا مرحًا، ولكنها كانت ترى منه غرابة أطوار. في الأسبوع الأول أخبرها عن أحزانه، وأنه ليس كما هو الآن من أدب وخلق، لقد كان تائهًا مخمورًا، وقد عرف كثيرًا من النساء قبلها.
صدمة عمرها! لمَ لم تخبرني من قبل، على الرغم من أنني سألت؟!
أجابها وهو يلوي رقبته: خفت أن أخسرك. لقد أردت امرأة مثلك.
دائمًا كان يتصرف بأدب واستجداء، وقد أجاد تمثيل المشهد.
وتوالت الأيام والمواقف التي لا تفسر في ذهن أي عاقل، ولكنها كانت تبرر لنفسها: "ربما يختلف عنا لأنه غريب".
هذا الغريب لطالما أراد أن يكسرها، يستغل عطفها، يتطفل على كل شيء، ويستنزف منها كل طاقة. لقد كان بخيلًا، قليل العواطف حتى.. لكنها كانت تبرر بخله بفقره، وقلة عواطفه لانشغاله.
ذلك الغريب كان يكره حب أخيها لها، فتعمد إثارة المشكلات، وضاعف جهده في أذيته، ولكن الأخير تجاوز، لطالما تمنى لها الهدوء في حياتها، ولطالما كان ذاك الغريب فعلًا غريبًا يظن أن الجميع يتآمر عليه.
وفي يوم من الأيام توفي والدها وأخوها الأكبر في حادث سيارة. وسافر أخوها الأوسط. ولكنه كان شديد الحذر من الأصغر، ولذلك دبر له مكيدة لقتله، وعندما علم ادعى البكاء والنحيب عليه، ذاكرًا مواقفه النبيلة والكريمة معه، مؤكدًا لها على محبته.
سنا الآن أم لطفلين، محطمة من كل جهاتها، الآن قرر هذا الغريب السفر. احتج بأنه لا يستطيع العمل في هذه البلد، وأنه إذا رجع إلى بلده سيؤمن لهم حياة أفضل. وقد كان دائم الاتصال بهم. وفي أحد الأيام قرر قطع الاتصال. ظنت المسكينة أنه سجن؛ لأنه كان تاجرًا للمخدرات من قبل، وأن عليه قضية سابقة.
وبصبر وثبات ونشاط راحت تدرس وتعمل وتربي، وتخاف في ليل غربتها لوحدها، بعد أن يئست من أي خبر عنه. وبعد سنة ونصف أخبرتها أخته أنه تزوج!
لا كلام الآن ينفع، ولا استرجاع الذكرى واجترار الألم يجدي، ولا كتفًا تستند إليه. هو الآن تركها لأنه يعلم ضعفها، ولم تعد توجد مصلحة تُرتجى منها، فأراد أن يتفنن في عذابها مع أطفاله الاثنين، لتعلم في نهاية المطاف أنه مصاب باضطراب النرجسية.
الآن بعد هذه المعلومة هي فهمت كم هو ضعيف، وكم ظلمته الحياة، ولكنه في أحسن أحواله شخص لا يصلح للعيش أبًا ولا حتى زوجًا لها.
مضت في طريق العمل والجد، تشق طريقها، وتستعيد ذاتها التي استُنزفت، وقتلها خذلانه ألف مرة، وتفاجأت من أين تأتيها كل تلك القوة؟! هل من ذكريات مَن تحبهم، أم من أخيها التي اعتادت زيارة طيفه لها في كل حلم؟!
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.