أغنية "هو صحيح الهوي غلاب" وسبب الخلاف بين كوكب الشرق وزكريا أحمد

كانت تلك الأغنية آخر ما أبدع به شيخ الملحنين زكريا أحمد لكوكب الشرق، وجاءت تلك الأغنية الجميلة بعد ما يزيد على عشر من السنوات، نشب فيها الخلاف بين زكريا والست.

على خلفية شعور شيخ الملحنين أنه خرج صفر اليدين فقيرًا، بعد كل تلك الألحان العظيمة التي منحها لسيدة الغناء، ولو أنصفت لكانت أجزلت له العطاء على تلك الروائع، ولو فكر مليًّا لكان كفاه ما ترك وراءه من فن راقٍ أسهم صوت الست في جعله أثرًا باقيًا لروعة الإبداع على مر السنوات.

اقرأ أيضًا شعبان عبد الرحيم.. أعماله وأشهر أغانيه الشعبية

الخلاف بين زكريا أحمد وكوكب الشرق 

كان أن وصل الخلاف بينهما إلى أروقة المحاكم، وطال وتشعب إلى أن انتهت القضية بيد قاضٍ من عشاق الفن الأصيل، فما كان منه إلا أن سعى إلى الصلح بين المتخاصمين مدفوعًا برغبته بسماع الست تشدو مجددًا بلحن من ألحان شيخ الملحنين، يحاكي الروائع التي شدت بها في الأربعينيات مثل أغنيات (أهل الهوى) و(الأولى في الغرام) و(حبيبي يسعد أوقاته) و(الأمل) وغير ذلك من درر صاغتها عبقرية زكريا أحمد.

ولقد قضى الاتفاق الصلحي الذي صاغه ذلك القاضي (السميع) أن يبدأ زكريا بتلحين أغنية جديدة للست، وأن يكون أجره 750 جنيهًا! طبعًا من جنيهات تلك الأيام عندما كان المصريون يتعاملون فيها بالمليم والتعريفة صاغ.

لقد وقع الصلح بينهما بعد مرافعة استثنائية من قاضي المحكمة الذي قال: إن مكان أم كلثوم وزكريا أحمد هو ساحة الغناء لا ساحة القضاء، وإن الجمهور يتوق لسماع لحن جديد لهما بدلًا من كلمات وعبارات قانونية جافة تتضمنها عبارات النطق بالحكم.

ظل القاضي -ببلاغة وإتقان- يعدد ما للنجمين من فضل على الموسيقى العربية، فما كان منهما إلا أن أعلنا التنازل والتصالح لتبقى مرافعة القاضي مدونة في سجلات القضاء المصري العريق.

كانت واحدة من أغرب المرافعات التي شهدها القضاء المصري عبر تاريخه الطويل، وليسجل القاضي عبد الغفار حسني اسمه ليس فقط في سجلات القضاء التي تنتهي إلى غرف الأرشيف المظلمة، بل وفي كتابات نقاد الفن وأذهان محبي الطرب الأصيل وتلك أبقى عبر الأيام.

ولأن شراكة فنية وصداقة عميقة تجمع بين زكريا أحمد وبيرم التونسي، فكان من الطبيعي أن تكون إبداعات بيرم هي ما سيعمل عليه شيخ الملحنين.

حيث وقع الاختيار على الكلمات ليبدأ زكريا بتلحين مقدمتها على مقام الراست، ثم بدل إلى البيات، لكنه استقر أخيرًا على مقام الصبا الذي يوصف بأنه مقام الحزن والشجن في الموسيقى العربية.

لعل ذلك ما زاد افتتان الجمهور بذلك اللحن الذي غدا ملء الآفاق في سنوات الستينيات، وموضع إعجاب الناس إلى اليوم.

وتسجل لنا ذكريات من عاصروا تلك الأيام الذهبية من عمر الغناء العربي، أن الوقت الذي انتُقيت فيه الكلمات وبدأ تلحينها تصادف مع حلول شهر رمضان وسهراته الجميلة.

اقرأ أيضاً فصل حصري من رواية "حانة الست".. أم كلثوم تروي قصتها المحجوبة

أغنية الهوي غلاب من أم كلثوم لأول مرة 

منها سهرة في منزل الست ضمت زكريا وبيرم وآخرين، ولم تكن أم كلثوم قد اطلعت على النص بعد، عندما استهل بيرم الجلسة قائلًا: «هو صحيح الهوى غلاب يا ست» فأجابت أم كلثوم «وأنا إيش عرفني»، فضج الحضور بالضحك وعرفت الست أنها مطلع الأغنية الجديدة.

ولقد كان استعمال مقام الصبا -حسب المؤرخ الفني كمال النجمي- محل دراسة وإعجاب من الملحنين والنقاد لصعوبة هذا المقام وضيق نطاقه، وإن كان هذا المقام لا يستغرق الأغنية كلها بل يطبعها بطابعه، بالمقدمة البديعة وبالتنويعات على هذا المقام، مثل مقطع «يا قلبي آه.. الحب وراه..».

لقد أعاد هذا اللحن الجميل لزكريا أحمد تألقه وتفرده في عالم الإبداع، وأرجع له بعضًا من الظرف الذي كان يمتاز به، وعملت الأغنية على إعادة تسليط الضوء على عبقرية بيرم التونسي.

غنت أم كلثوم «هو صحيح» أول مرة على مسرح قصر النيل يوم الخميس في الأول من شهر ديسمبر عام 1960، وسرعان ما صارت تلك الأغنية لازمة في كل حفلات الست في هذا الموسم والموسم الذي تلاه.

لم تمهل الأيام زكريا وبيرم طويلًا بعد تلك الأغنية، وكأن اجتماعهما في ذلك العمل الفني بعد انقطاع طويل كان إيذانًا بالرحيل، إذ توفي بيرم عصر يوم الخميس الخامس من يناير عام 1961، وتصادف أنه الخميس الأول من الشهر الذي كان موعد العرب من محيطهم إلى خليجهم مع حفلة الست، وجاء من يخبر أم كلثوم وهي تهم لصعود مسرح قصر النيل بالخبر المحزن، فكان أن غيرت برنامج الحفل لتشدو «هو صحيح» إكرامًا لرحيل مبدع كلماتها، وليكون مقام الصبا الحزين متوافقًا مع الشعور الذي خلَّفه خبر رحيل بيرم، ثم ليرحل زكريا أحمد في الذكرى الأربعين لرحيل صديقه بيرم.

تمر الأيام ويبقى صدى السؤال يتردد في كل مرة نسمع فيها تلك الأغنية «هو صحيح الهوى غلاب؟» أستعير الجواب من الأغنية ذاتها وأساير الست في ادعائها بعدم المعرفة لأقول: «ما عرفش أنا»، هل تعرفون أنتم؟

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة