«أطيب ثمرات الزمان».. قصة قصيرة

لم يكن اليوم مُهيًا للحرث والحصاد، في ظل الرياح والعواصف التي عسكرت عند أطراف القرية، وما إن سكبت السماء دلوها، حتى خلت الحقول والمروج من قاطنيها، وقفلوا عائدين إلى بيوتهم المسقوفة بأعواد القش والطين، يحملون مناجل البرد الحادة فوق عاتقهم.

هُنيهات وشرع الأفق يُزمجر بأبواق الرعد، ويضرب خاصرة الغيم بسياطه الحادة، فتسيل الأمطار، والأبقار فوق العشب لا تفتأ تُرسل خوارها إلى الفضاء وهي تزدري التبن من قصاع الطين الجاف، فصاح والده: «هيا نجمع أكوام البرد قبل أن يُثقله المطر»، ثم ندت منه ابتسامة عاجلة وقال: «أكاد أشتم رائحة الخبز المطهو الذي تُعده والدتك فوق الموقد، الجوع يا بُني يجعل الدُقل شهيًّا».

ثم حملوا البرد على ظهورهم حتى غاصت أقدامهم في أحواض الطين العالق بسبب المطر، فنقلوه إلى بيوت من الطين اللِّبِن معقودة بالقش وسعف الجريد، ثم شرعوا في غرزها بطريقة عمودية حتى لا تأكلها رطوبة الثرى، وكان أبوه يربُت على ظهره، ويُشير إلى الأرض المنخفضة: «هناك المجد يا بُني، لا شيء يبقى في المدى سوى الأرض»، ثم غدوا إلى البيت وهما يلهوان في الطريق بقطع الطين التي كست ملابسهما، فتلقَّفتهما أمه بابتسامة ساحرة، وقد رأت الطين قد أخفى ملامحهما، فذهبوا إلى الأحواض ليغتسلوا، ثم قدمت إليهم الخبز الناضج، والحساء الساخن، وكرات اللحم تطفو فوقه.

ومرت الأيام سراعًا في خرطها للأحداث والقصص، وخلا البيت من قاطنيه، وهجرت الطيور آجمة الدوح العالية، فتذكر عند عودته للتو طعم الخبز الناضج فوق الموقد الذي كانت تُعده أمه، ورمق حوض الماء الجاف فتذكر كيف كان يلهو مع والده، ويدليان أرُجلهما في الماء بعد ما يغتسلان، وعبق الطين ما زالت رائحته بين كفيه، فندَّت من عينيه دمعة خيَّمت تحت سحائب الألم، فتذكر وصية أبيه، فخلع حذاءه، ونبش السور القديم، فأخرج منجله الصغير، وباشر بجزِّ العشب الضار، ثم طفق يحرث الأرض، ويزرع الذرة، حتى أثمرت الأشجار بأنواع الفاكهة، وعادت طيور البندق تُعشش في آجمة الدوح، ومُلئت الأحواض بالماء، وعاد الفراش يُحلق فوقهما، ونما العشب الأخضر حول قبرين مُلتفِّين.

ووقف أمامهما ناكسًا رأسه خاشعًا والدموع تُبلل عينيه، برفقة زوجته وأبنائه، ثم التفت إلى أبنائه الذين وقفوا خاشعين قائلًا: «سيبقى أبي إرثًا خالدًا في قلبي، وستبقى ذكراهما عالقة في ذهني، ماثلة إلى الأبد، وستبقى تلك الذكرى هي أطيب ثمرات الزمان، ولن أنسى أبدًا».

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

كم هى جميلة ورائعة كلماتك
صح قلمك. إبدااااااااااع 👍🌹
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.