يُعدّ تاريخ المماليك أحد الفصول الأكثر إثارة في التاريخ الإسلامي، إذ شهدت مصر والشام خلال حكمهم تحولات عسكرية وسياسية كبرى، جعلت من هؤلاء الجنود المستقدمين من أواسط آسيا قوة حاكمة استمرت قرونًا، وفي حين يتساءل بعض الباحثين: هل كانوا محتلين أم منقذين؟ فإن الحقيقة تكمن في تفاصيل معقدة تجمع بين الطموح العسكري، والولاء للسلطة، والانخراط في مواجهة التحديات الصليبية والمغولية.
في هذا المقال نستعرض الأصول العرقية للمماليك، وآليات جلبهم من الخارج، ودورهم الجوهري في الدفاع عن الدولة الإسلامية.
يا لها من قصة صعود رهيبة، صحيح هي عبرة، ولكن تخفي وراءها كثيرًا من الأقاويل والحكايات التي يمكن أن ترسم في ذهنك صورة مختلفة عن المماليك وعن تصنيفهم؛ هل هم أناس جاءوا لخدمة البلاد التي حكموها، أم جاءوا ليكونوا ملوكًا مستفيدين من خيرات هذه البلاد فقط؟ ذلك التساؤل يظل حاضرًا؛ لأن طبيعة المماليك كانت هجينة تجمع بين الخدمة العسكرية والسلطة المطلقة، مما يجعل تصنيفهم إشكاليًا في نظر بعض المؤرخين.
أصول المماليك ونظام جلبهم من الخارج
عندما قدمت الدولة الأيوبية إلى مصر جلبوا معهم المماليك، وتم عمل معسكرات لهم على ضفاف النيل. كان ذلك ضمن نظام متكامل يشرف عليه السلاطين الأيوبيون، فيشترون هؤلاء الفتيان من أسواق النخاسة ويشرفون على تدريبهم عسكريًا في مدارس عسكرية متخصصة تُعرف بـ«الطباق».
وكانت أكثر المناطق التي تم جلبهم منها: السهوب القَزَخية، والقوقاز، وحوض نهر الفولغا، وشبه جزيرة القرم، وسهول آسيا الوسطى مثل كرغيزستان وأوزبكستان وجورجيا، وكان يتم استيرادهم عبر وسطاء من تجار الرقيق من إيطاليا وجنوة والبنادقة، والذين كانت لهم شبكات واسعة في البحر الأسود، وكانوا يتميزون بالبنيان الجسماني القوي؛ لذلك كان يتم تدريبهم وتجنيدهم في الجيش منذ الصغر على الطاعة والانضباط والمهارات القتالية.

فهم فئة من العسكريين المدربين على الحرب في البيئات الوعرة، فيتلقون مستويات عالية من التدريب جعلتهم ينتصرون في كثير من المعارك القوية التي خلدها التاريخ مثل معركة عين جالوت التي كانت الصخرة التي تحطم عليها الطوفان المغولي بمساعدة أهالي مصر الأصليين والقبائل العربية.
بداية دولة المماليك
كان توران شاه هو آخر سلاطين الأيوبيين في مصر، وكانت هناك جارية في قصره تُدعى شجرة الدر، ولكن بفضل ذكائها ودهائها تمكَّنت من أن تكون أول سلطانة على القطر المصري، وهي التي بدأت دولة المماليك بزواجها في عز الدين أيبك. ومنذ هذه اللحظة تحول المماليك إلى ملوك يحكمون مصر والشام وأجزاء من الجزيرة العربية.
الدولة المملوكية البحرية والبرجية
انقسمت الدولة المملوكية إلى مرحلتين:
الدولة المملوكية البحرية (المماليك الشركس)
وهم من الشركس الموجودون في أواسط آسيا بين إيران وروسيا الآن، إضافة إلى مماليك «القبجاق» و«الأتراك»، ومن أشهر المماليك في هذه الدولة عز الدين أيبك والظاهر بيبرس والناصر محمد بن قلاوون وغيرهم، تأسست هذه الدولة فعليًا بعد اغتيال توران شاه في عام 1250م، وامتد نفوذها إلى الشام والحجاز.

ومن إنجازات هذه الدولة استعادة مدينة عكا التي كانت حصنًا حصينًا من حصون الصليبيين وآخر معقل لهم. فقد خاض المماليك كثيرًا من الحروب ضد الصليبيين وصدوا أكثر من سبع حملات صليبية على مدار حكمهم.
الدولة المملوكية البرجية
الذين انقلبوا على دولة المماليك البحرية وتقلدوا هم الحكم في مصر، وتُعرف أيضًا بـ«المماليك الجراكسة»، وكانوا من مناطق القوقاز وخصوصًا من بلاد الشركس، وسمّوا بالبرجية نسبة إلى سكنهم في أبراج قلعة الجبل.

وشنوا حملات لاستعادة الشام وبغداد من التتار أشهرها معركة عين جالوت، وقد كان أقصى اتساع للمماليك في دولة المماليك البرجية، ومن أبرز سلاطينهم السلطان برقوق (1382م) مؤسس الدولة الثانية، والسلطان قايتباي الذي شيّد العديد من المنشآت في القاهرة، وكانت مدّة حكمهم مليئة بالصراعات الداخلية والانقلابات العسكرية، لكنهم حافظوا على الأمن العام ضد التهديدات الخارجية.
بداية الاعتماد على المماليك في خدمة الخلفاء العباسيين
كانت بداية ظهور المماليك في الخلافة العباسية في عهد المأمون، ثم توسع الخليفة المعتصم في الاعتماد عليهم، أسّس المعتصم لهم مدينة سامرّاء خصيصًا بسبب ازدياد نفوذهم وصدامهم مع أهل بغداد، كما كان لهم دور في الدفاع عن العاصمة ضد ثورات العلويين والزنوج، واستمر نفوذهم حتى صاروا يكوِّنون العمود الفقري للجيش العباسي.
المماليك وحماية العالم الإسلامي
عمل المماليك على حماية الدولة العباسية الإسلامية من بطش المغول، فعندما وقعت بغداد في أيديهم تمكن المماليك من استعادتها واستعادة جميع المناطق التي كانت تحت إمرة الدولة العباسية.
وصدوا الحملات الصليبية التي كانت تستهدف فلسطين ومصر والشام، فلاقوهم في معارك حاسمة أجبرتهم على الانسحاب من تلك المناطق، وأشهرها معرفة فتح عكا آخر معاقل الصليبيين في فلسطين. وقد كانت حصنًا منيعًا، ودارت معركة شرسة بين المماليك والصليبيين، ودام الحصار مدة طويلة حتى استسلم الصليبيون.
ويقول بعض المؤرخين إنه لولا دور المماليك في خدمة الخلفاء العباسيين ما كانت لتقوم قائمة للدولة الإسلامية بل وللإسلام بأسره؛ فقد كان لهم دور بارز في حماية الدين الإسلامي من الصليبيين والتتار.

وقد كتب المؤرخ «أم. س. هولت» (M.S. Holt) أن المماليك «أنقذوا قلب العالم الإسلامي مرتين، الأولى في عين جالوت، والثانية عندما استأصلوا الصليبيين من عكا».
بينما يبقى المماليك محل جدل بين من يرى فيهم منقذين وبين من يعدّهم غزاة، فإن الحقائق التاريخية تثبت أنهم أدَّوا دورًا محوريًا في حماية الشرق الإسلامي من أخطر تهديدين: التتار والصليبيين. وحين تغيّرت وجوه الحكم، ظل إرثهم حاضرًا في مدن، ومعارك، وإنجازات عمرانية وعسكرية لا تزال شاهدة على عصرهم.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.