الكُشري من أشهر الأطباق الشعبيّة في المطبخ المصري التي تحظى بشعبية واسعة في مصر، فتكاد لا تخلو مدينة أو قرية إلا أن تجد بها في الأقل مطعمًا لهذا الطبق الشهير، ويتكون هذا الطبق الشهير من المكرونة والأرز وبعض الحبوب مثل العدس والحمص، وعلى الرغم من انتشار هذا الطبق بدرجة كبيرة في مصر، فإنه دائمًا ما يثير الجدل: ما أصل هذا الطبق؟
هل الكشري هندي الأصل؟
عندما تبحث عن أصل طبق الكُشري على مواقع الإنترنت، تجد أغلب المواقع تذكر هذا الطبق على أنه منحدر من المطبخ الهندي، معتمدين على مصدر إنجليزي غير موثوق، على أن الكُشري أكلة هندية نقلها الهنود إلى الجيش البريطاني عام 1914، وذلك في أثناء الحرب العالمية الثانية، ومنها انتقل إلى مصر حتى أصبح واحدًا من أشهر الأطباق في المطبخ المصري، لكن هل هذا المصدر صحيح؟
الأدلة التاريخية على الأصل المصري للكشري
في الحقيقة، إن الكُشري طبق مصري 100%، ذُكر في أكثر من مصدر تاريخي قبل الرواية المنتشرة عنه:
شهادة مانيتون السمنودي.. (الكوشير) في مصر البطلمية
فقد ذُكر في الكتاب التاريخي الشهير «الجبتانا» للمؤرخ والكاهن المصري «مانتون السمنودي»، ذلك المؤرخ الذي عاش في عصر البطالمة قبل حوالي 2300 سنة. وقد نقل هذا المؤرخ التاريخ المصري القديم، أو ما يُعرف عند البعض بالتاريخ الفرعوني، وهو الذي قسَّم هذا التاريخ إلى 30 أسرة.
فقد ذُكر في الكتاب التاريخي الشهير «Aegyptiaca» الذي يُعرف أحيانًا بالعربية باسم (تاريخ مصر) أو (الجبتانا) للمؤرخ والكاهن المصري «مانيتون السمنودي» (Manetho of Sebennytos)، ذلك المؤرخ الذي عاش في عصر البطالمة (القرن الثالث قبل الميلاد) قبل نحوي 2300 سنة. وقد نقل هذا المؤرخ التاريخ المصري القديم، أو ما يُعرف عند البعض بالتاريخ الفرعوني، وهو الذي قسَّم هذا التاريخ إلى 30 أسرة حاكمة، وهو التقسيم الذي لا يزال يستخدمه علماء المصريات حتى اليوم.
في هذا الكتاب تحدَّث «مانتون السمنودي» عن زراعة القمح والعدس في مصر، وتكلَّم عن وجبة «الكوشير»، التي تتكون من حبوب القمح، العدس، الفول، الحمص، والبصل المطهو في أواني الفخار على نار «نوت» «إله السماء»، وتم ذكر هذا في الكتاب في الصفحة 160.
شهادة الرحالة ريتشارد بيرتون.. الكشري في مصر منتصف القرن التاسع عشر
ظلَّ المصريون يتناولون أطباقًا مشابهة للكوشير، ربما بهذه الطريقة التي ذُكرت في كتاب «جبنتا» المنسوب لمانيتون، حتى دخلت زراعة الأرز إلى مصر خلال العصور الوسطى، ربما في القرن العاشر، فَشَهِدَ الطبق تعديلاً بِاستبدال القمح بالأرز، وإِزالة الفول منه (أو استمراره في بعض الوصفات).
واستمر الكوشير -أو ما تطور عنه- طبقًا شعبيًّا رئيسًا في مصر، حتى ذكره الرحالة والمستكشف البريطاني الشهير السير ريتشارد فرانسيس بيرتون (Sir Richard Francis Burton) الذي زار مدنًا مصرية مثل القاهرة والإسكندرية والسويس، إضافة إلى الحجاز ومكة عام 1853، قد وَثَّقَ بكتابه «رحلة شخصية إلى المدينة ومكة» (Personal Narrative of a Pilgrimage to Al-Madinah and Meccah) الحياة الاجتماعية لتلك المدن، مُشيرًا إلى أن الكوشير -أو الكشري- كان من أطعمة أهل السويس، ولا سيما في مصر خلال الشتاء، كما ذَكَرَ ذلك في الصفحة 150.
ذُكر الكوشير في كتاب الرحالة بيرتون قبل الاحتلال البريطاني لمصر (1882) وقبل الحرب العالمية الأولى التي يُزعم أنها جلبت الطبق من الهند بأكثر من 60 عامًا، ما يدحض بقوة نظرية الأصل الهندي الحديث.
مسار تطور الطبق عبر العصور
العصر |
المكونات الرئيسة |
التعديلات |
العصر الفرعوني |
قمح، عدس، فول، حمص، بصل |
طهي في أوانٍ فخارية على نار مقدسة |
بعد القرن العاشر |
استبدال القمح بالأرز |
إزالة الفول |
القرن التاسع عشر |
إضافة صلصة الطماطم |
- |
القرن العشرين |
إدخال المكرونة الإيطالية |
تحويله إلى طبق "شامل" بطبقات متنوعة |
إذًا، هل الكشري هندي أم مصري؟ تشير الأدلة التاريخية التي استعرضناها، من كتابات مانيتون السمنودي في القرن الثالث قبل الميلاد إلى ملاحظات ريتشارد بيرتون في القرن التاسع عشر، بقوة إلى أن جذور هذا الطبق ضاربة في عمق التاريخ المصري، وأن رواية الأصل الهندي عبر الجيش البريطاني تفتقر إلى الدقة التاريخية وتتجاهل وجود الطبق في مصر قبل ذلك بوقت طويل.
لقد تطور طبق (الكوشير) القديم على مر القرون، متأثرًا بدخول محاصيل جديدة كالأرز والطماطم، وتأثيرات ثقافية كإضافة المكرونة، ليصبح الكشري الذي نعرفه ونحبه اليوم. إنه ليس مجرد وجبة لذيذة ومشبعة، بل هو جزء حي من التراث المصري، بطبق يحكي قصة تاريخ طويل من التكيف والتطور والتبادل الثقافي على أرض مصر.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.