عندما نتحدث عن مصر يأتي في عقولنا تمثال أبو الهول والأهرامات ونهر النيل وغيرها من معالم مصر، لكن يوجد في مصر أشياء غالية جدًّا وغريبة جدًّا، منها المعروف والمتاح بالنسبة لنا، ومنها غير معروف. ففي قديم الزمن وفي مستشفى من المستشفيات -وهي مستشفى القصر العيني- كان يوجد متحف غريب عن باقي المتاحف، فيه أشياء غريبة ومخيفة جدًّا، هذه الأشياء كافية لجعل هذا المتحف من أغرب المتاحف.
لكن في البداية لا بد أن نتعرف بصاحب هذا المتحف، وكيف أنشأه؟ وكيف فكَّر في فكرة إنشاء هذا المتحف الغريب؟ وهو دكتور اسمه نجيب محفوظ. وعندما نقرأ اسمه نتذكر الأديب العالمي نجيب محفوظ. فهل تُرى توجد علاقة بينهما أم أن الأمر مجرد تشابه أسماء؟ نعم، فعلًا توجد علاقة.
اقرأ أيضاً الخلايا الجذعية وزراعة أنسجة حيوية ذاتية.
الدكتور نجيب محفوظ
في قديم الزمن وتحديدًا في عام 1911 كانت والدة الأديب الراحل في حالة ولادة متعسرة، فاستدعى زوجها طبيبًا مشهورًا بالقرى والمدن حولهم، وكان مشهورًا ومعروفًا بأنه دائمًا يسعى للمشاركة في حالات الولادات المتعسرة، وينقذ الأمهات اللاتي تعسرت ولادتهن.
حضر الطبيب، وبالفعل أنقذ الأم والطفل كليهما، ونجت الأم من خطر الموت، فما كان من الأم إلا أن سمَّت الطفل باسم الطبيب الذي أنقذها! سمَّته نجيب محفوظ، ليكبر الطفل ويصبح الأديب العالمي نجيب محفوظ. ولكن السؤال المهم هو: من الطبيب نجيب محفوظ؟
اقرأ أيضاً شرف المهنة Honor of profession
من هو الطبيب نجيب محفوظ؟
وُلد الطبيب نجيب محفوظ بمدينة المنصورة عام 1882. وكان في الأصل قبطيًّا، وقُبل بالمدرسة الطبية بالقصر العيني عام 1898، ودرس وتعلَّم على يد أساتذة أوروبيين. اختار تخصص التخدير، وتخرج عام 1902، ولكن أُجِّل تخرجه في المدرسة بسبب انتشار وباء الكوليرا الذي قضى على كثير من الناس في مصر. وبناءً على ذلك جُنِّد طلبة المدرسة الطبية المصريون ليساعدوا ويشاركوا في القضاء على الوباء وعلاج المصابين.
ومن ضمن الطلبة الذين جُندوا الطالب نجيب محفوظ الذي تخصص في الكشف عن المرضى المصابين بالكوليرا، وعُيِّن بمحطة السكك الحديد الرئيسة بمحافظة القاهرة، وبذلك كانت مهمته الكشف عن الحالات القادمة من العاصمة.
لكنه كان غير راضٍ عن المنطقة التي اختير للتعيين بها؛ لأنه كان يعلم أن الحالات الخطيرة توجد بالأرياف والقرى البعيدة، وبها مصابون كثيرون بأمسِّ الحاجة إلى رعاية ودراسة وعلاج أكثر؛ فقدَّم طلب نقل إلى هناك. وبالفعل قُبِل الطلب ونُقل إلى هناك كما كان يريد.
وهناك وجد أن هذه المناطق أكثر إصابة بالوباء، ومن ضمنها قرية اسمها موشا تقع بالقرب من أسيوط، فقد كانت من أكثر المناطق تسجيلًا لحالات مصابة.
وهناك عمل نجيب بأعلى جهد وأكبر كفاءة، معرِّضًا نفسه لخطر الإصابة بهذا المرض الخطير، حتى إنه استطاع أن يصل إلى مصدر هذا الوباء، وذلك عن طريق متابعة الحالات المصابة بالمرض. فقد اكتشف أنه نتج من بئر ملوث يوجد داخل منزل أحد الفلاحين، وبعدها استطاعوا محاصرة هذا الوباء.
اقرأ أيضاً أُمُّ الطب الحديث
حادثة غيرت في مصير الدكتور نجيب محفوظ
تخرج الدكتور نجيب محفوظ كونه طبيب تخدير، ولكن حدثت له حادثة غيَّرت مسار حياته. ففي إحدى المرات وهو يؤدي عمله في إحدى الولادات المتعسرة؛ ولأنه طبيب تخدير، شعر بصعوبة هذه الولادة؛ لأنه قليل الخبرة في هذا التخصص.
وعندما طلب منه الطبيب الأساسي مساعدته؛ لأن الحالة كانت في غاية الصعوبة، ورأس المولود كانت داخل رحم الأم، وباقي الجسد خارج الرحم. وبعد محاولات كثيرة انفصل رأس المولود عن جسمه، وظلَّت الرأس داخل الرحم، وماتت الأم أيضًا.
هذه الحادثة أثَّرت في الدكتور نجيب جدًّا، وأدرك أن تخصص النساء والتوليد تخصص فقير من الأطباء والمعدات والدراسات والخبرة، واتخذ قرارًا بتغيير تخصصه من التخدير إلى النساء والتوليد.
وعلى الرغم من أن المجتمع وقتها كان يرفض ذلك لكونه رجلًا، فقد استطاع أن يحقِّق نجاحًا عظيمًا في هذا التخصص، ونفَّذ فكرة غريبة، فأخذ يتجول في القرى يبحث عن حالات ولادات متعسرة ويساعدها مجانًا. وتطوَّر الأمر وافتتح عيادة بهذا التخصص، وحقَّق نجاحًا باهرًا، وأجرى دراسات كثيرة في أثناء عمله في هذا المجال.
اقرأ أيضاً الرازي وابن سينا.. أشهر الأطباء على الإطلاق
متحف الأجنة لنجيب محفوظ
رأى الدكتور كثيرًا من الحالات الغريبة للأجنة والأطفال حديثي الولادة، فجمع مئات الحالات من العينات المختلفة لأجنة كثيرة لأطفال ماتوا في أثناء الولادة أو وُلدوا مشوَّهين بتشوه غريب ونادر، وحالات إجهاض لأطفال لم يكتمل نموهم.
كان يأخذ كل هذه العينات ويحتفظ بها في أوعية خاصة من الزجاج لهذا الغرض. فعل هذا بماله الخاص، وحفظها بسوائل كيميائية كان يصنعها بنفسه، واستعمل كل هذه الأشياء عندما كان يدرس في كلية الطب، فكان يعرفها ويدرِّسها للطلبة. وبعد زيادة عدد هذه العينات أنشأ مكانًا مخصصًا لعرضها بالكلية.
وبعد أن جمع نحو 3000 عينة قرر أن يهديها إلى كلية الطب بالقصر العيني؛ ولذلك أُنشئ متحف نجيب محفوظ للأجنة المشوهة، وسُمِّي المتحف باسمه «متحف الطبيب نجيب محفوظ». ضم المتحف كل الأشياء والأدوات المتعلقة به والخاصة بطب النساء والتوليد، إضافة إلى الأجنة المشوهة.
وأهم ما ضمَّه هذا المتحف أدوات طبية مثل الخيوط المستخدمة في عملية الجراحة والإبر، ويوجد قناع التخدير الذي اخترعه، وكثير من الأشياء. وأسفل كل عينة بشرية أو أداة من هذه الأدوات رسم توضيحي يوضِّح العينات والغرض منها؛ وذلك ليستطيع الطلبة الاستفادة منها.
ومع مرور الوقت، وعندما تقاعد الدكتور عن العمل، خسر المتحف كثيرًا من العينات بسبب الإهمال، ولكن في سنة من السنوات عُيِّن بالمتحف أشخاص للاهتمام بالعينات والسوائل التي حُفظت فيها.
إلا إنهم بدَّلوا السوائل بسوائل أخرى من صنعهم؛ ففسدت كثير من العينات، ولكن كان للدكتور نجيب مساعد علَّمه صناعة المحاليل، فساعدهم في إعادة تركيب محاليل أخرى في أوعية زجاجية لحفظ باقي العينات، واستطاع إنقاذ كثير من العينات.
أشهر العينات وأغربها في متحف الأجنة
1- حالة امرأة جاءت إلى دكتور نجيب محفوظ ليعالجها؛ لعدم وجود فتحة المهبل كباقي النساء. وبعد أن فحصها الدكتور عرف وتأكد أنها ذكر وليست أنثى، ووجد خصيتين قد أصابهما الضمور داخل بطنها، ولم يتمكن من العثور على المبيضين، وأجرى لها عملية جراحية استأصل فيها الخصيتين، وفتح لها فتحة للمهبل. وكانت هذه أول عملية لتغيير الجنس.
2- حالة الأنثى الكاذبة: حالة امرأة تزوجت من سنين، وهي في الأساس ذكر، ولكنها تحس بأحاسيس الأنثى، وكانت تملك خصيتين، فاستأصل الدكتور الخصيتين وجزءًا من البظر، وعاشت حياتها مرة أخرى أنثى.
3- عينة راصد الكواكب: هي عينة لطفل مشوَّه حديث الولادة، كانت عيناه تنظران لأعلى كأنه يتأمل أو يراقب النجوم؛ لذلك سُمِّيت العينة بهذا الاسم.
4- عينة أحلى واحد: مات هذا الطفل بسبب التفاف الحبل السري حول رقبته، لكنه احتفظ بجماله وبراءته؛ لذلك سُمِّي بأحلى واحد.
5- عينة حورية البحر: بعد ولادة طفل وجده مشوَّهًا، فقد كانت قدماه ملتصقتين مثل ذيل حورية البحر.
وبعد تاريخ طويل من الدراسات التي أجراها الدكتور نجيب توفي بعد أن بلغ من العمر 92 عامًا، وترك أثرًا عظيمًا في مصر، يعود إليه الطلبة ليستفيدوا منه حتى الآن؛ لأن متحف الأجنة المشوَّهة الذي يوجد بمصر يُعد متحفًا لا مثيل له في العالم؛ فرغم وجود متاحف أخرى، لكنها لا تملك الأدوات والعينات والحالات الغريبة التي توجد في هذا المتحف، وهذه من ضمن المعالم العظيمة التي تتمتع بها مصر.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.