ما ستقرؤهُ الآن ليس مشهدًا سينمائيًا، وليست قصة من خيالي، إنَّها واقعٌ، واقعٌ مُر.
كان القصفُ يومها قويًا، والأمكنة جميعها خالية من البشر، كنتُ قد تركتُ مدرستي، لكن قلبي وكياني كانا هناك، يا تُرى، ماذا سيتعلمون من دوني؟ كيف سيمر اليوم دون أن أتعلم شيئًا جديدًا؟ كيف؟ وكيف؟
قطع حبل أفكاري دوي انفجار هز أركان المكان، هلعتُ، كنتُ طفلة تخشى الموت، تراه عقابًا مُرعبًا ومؤلمًا، أغلقُ ستار النافذة ظنًا بأنه عازل للرصاص، وأغطي رأسي باللحاف كأنني بذلك أُحصّن نفسي من الموت، كنتُ أدعو الله أن أستيقظ، أن أنجو، وتارةً لا أنام خوفًا من أن يكون نومي أبديًا.
يومها كنتُ قد نمتُ طويلًا، فالاشتباكات كانت متواصلة، كنتُ كلما استيقظتُ وسمعتُ دوي انفجار، أعودُ وأتدثرُ بلحافي، حلَّت الظهيرة ولا أزال عالقة بين النوم والصحوة، بين الأمان والخوف، مللتُ، فقررتُ الخروج من مكاني الآمن.
تحركتُ ببطء، أرجو الله ألا يصيب أحدهم مكروه، الجميع كان قلقًا.
- أبي، ما الذي يجري هُنا؟
- إنَّهم ينتصرون، إننا نتحرر.
كان أبي نقيًا، يظنها ستنتهي بسهولة دون أدنى تعبٍ أو جهد، كنتُ أصدقه في كل مرة؛ لأنني كنتُ أودُّ تصديق ذلك، ابتسمتُ له:
- حقًا؟ سننتصر؟
لكنني كنتُ أرتجف مع كل دوي انفجار، كان منزلي يهتز من صوتي لا من صوت القذائف، كنتُ الأكثر خوفًا بين الجميع، وكانوا يسخرون مني لهذا السبب، لم أكن أجادل، كيف أخبرهم أنني لا أريد أن أرحل دون معانقة حلمي؟
اشتدَّ القصف، انفجارٌ قريب، دخانٌ متصاعد، قلبي ينبض بعنف حتى شعرتُ أنه سيترك مكانه، ثم سمعتُ صوت ابن جارنا الصغير:
- أحمد!
ما الذي يفعله هذا الشقي هنا؟ الحرب لا تعرف عمرًا، غادر يا صغيري، اختبئ بحضن أمك، لا تأتِ إلينا اليوم، ربما لن تعود مبتسمًا كعادتك، كان يأتي دائمًا ليزرع الفوضى في منزلنا، لم أكن بعمره، لكنه كان صديقي، شقيق روحي.
انفجار آخر، هذه المرة في المنزل، الدخان يملأ المكان، صرختُ بهلع الكون:
- لا أريد أن أموت!
لم أستوعب أنني لا أزال حيًّا، التفتُ نحو أخي، تغطى بالدخان هو الآخر، حمدًا لله، لم يُصب أحد.
لكنني كنتُ مخطئة، أصوات العويل من الطابق السفلي اخترقت مسامعي، صوتٌ يولد القشعريرة، ويقتلك قبل أن تفهم الحقيقة، حاولتُ أن أجر قدمي، لا أملك القوة، لكنني نهضتُ.
- من؟
- أحمد!
اسودَّت الدنيا في عيني للحظة، تمنيتُ أن تخونني عيناي، أن يكون ما أراه وهمًا.
- أحمد غارقٌ في دمائه، بين يديّ رجلٍ لا أعرفه، كان الرجل يركض به، على الرغْم من أنه يعلم أنه فارق الحياة، كان ينتظر معجزة، لكن أحمد لم يعد.
رحل أحمد، ورحل معهُ عمار، طفلٌ ذو ستّ سنوات، منظرهُ المحترق يجعلك تكره عينيك، لم يكن صوت الانفجارات قويًا هذه المرة، كان صوت أم أحمد وأم عمار أقوى.
غادرنا المنزل بين سرب الرصاص، كنتُ أركض، يدي بيد أختي الصُغرى، لا أريد أن أفقدها كما فقدتُ أحمد.
ركضتُ بخوف وبعشوائية، أتذكر أحمد، وأتساءل:
- ماذا لو رحلتُ معه؟
توقفتُ قليلًا أنتظر أهلي، لكن صوت والدي اخترق رأسي:
- اركضي! لا تنتظري أحدًا!
فبكيتُ، أيُعقل أن أركض نحو الأمان وحدي؟ أن أصل أنا وأختي فقط؟ ماذا لو مات أهلي كما مات أحمد؟ كيف سأعتني بها؟ كيف سأعتني بي؟
ركضتُ، ولم أسمع أصوات الرصاص التي كانت تمر فوقي، حمدًا لله أن قصر قامتي حينها كان له فائدة.
خرجنا جميعًا بأمان، لكن لم يَسعد أحدٌ منا، كانت المشاهد تتكرر في رؤوسنا كأنها شريط لا ينتهي، كلٌّ منا كان يصف ما مرَّ به، وكيف كانت مغامرتنا، لو لم أعش بين ركام الحرب، لقلتُ إنه فيلمٌ سينمائيّ، لكنه واقع واقعٌ مر.
لأيامٍ عدة كنتُ أرى طيف أحمد، أبكي بصمتٍ على ذلك الشقي، أتساءل مع من سأشاغب الآن؟
كان والدي يقول لي دائمًا:
- لقد كبرتِ، لا داعي لجنونك المبالغ به!
لكني لم أكبر.
غادرتُ المنزل الذي احتضن طفولتي، غادرتُ أصدقائي الذين طالما عمَّت ضحكاتنا المكان، كانت الحياة حياة حينها، لكنني الآن غريبةٌ في موطني، كم حنَّ قلبي لأعود، وكم كان يخاف أن يرى طيف أحمد.
أحيانًا أتساءل، ماذا لو كانت أمي معنا؟ هل كانت ستبكي بحرقةٍ على أطفالٍ لم يصنعوا للحربِ شيئًا سوى أنهم ابتسموا كثيرًا؟
أحيانًا أحسد أمي؛ لأنها لم تركض معنا، أحيانًا أحسدها لأنها سبقت أحمد.
👍👍👍
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.