إذا سألت أي شخص في العالم عن أشهر لوحة فنية، سيجيب بلا شك «الموناليزا»، لكن ما الذي يجعل لوحة الموناليزا تثير كل هذا الجدل والغموض؟ في هذا المقال، سنأخذك في رحلة عبر الزمن لاستكشاف تاريخ لوحة الموناليزا، من مراحل إنشائها في فلورنسا على يد ليوناردو دافنشي، إلى قصص السرقة والتحولات التي مرت بها. سنتعرف أيضًا على النظريات المختلفة التي تحاول تفسير هوية المرأة المرسومة والأسرار الرياضية التي تكتنفها، وكيف أصبحت الموناليزا قبلة لأكثر من تسعة ملايين زائر سنويًا في متحف اللوفر؟ ولماذا حظيت بكل هذه الشهرة؟ استعد لاكتشاف أسرار الفن والتاريخ وراء هذه التحفة الفنية التي لا تزال تُلهب الخيال.
رحلة لوحة الموناليزا من فلورنسا إلى متحف اللوفر
في البداية لا بد أن نعرف أن الموناليزا لوحة زيتية، رسمها الفنان والرسام الإيطالي الشهير ليوناردو دافنشي على لوح خشبي من البوبلاز، وقد أنجز اللوحة بين العامين 1503 و1519، وقد رسم ليوناردو دافنشي الموناليزا في أثناء وجوده بمدينة فلورنسا الإيطالية؛ لتصبح بعد ذلك أشهر اللوحات وأغلاها ثمنًا في العالم، ولتستقر في متحف اللوفر في العاصمة الفرنسية باريس، ولتصبح الموناليزا قبلة لأكثر من تسعة ملايين سائح وزائر سنويًّا.
كيف انتقلت ملكية الموناليزا إلى فرنسا؟
وتؤكد معظم المصادر التاريخية أن ليوناردو دافنشي قد كُلف برسم اللوحة التي بدأها في إيطاليا وأنهاها في فرنسا، وأصبحت بعد ذلك ملكًا للملك الفرنسي (فرنسوا الأول)، ومع الوقت انتقلت ملكية الموناليزا إلى الملك (لويس الرابع عشر)، ثم أصبحت لوحة الموناليزا جزءًا من التراث الفرنسي بعد حدوث الثورة الفرنسية.
أبعاد لوحة الموناليزا وأهمية الألوان الزيتية في تصميمها
عندما عمل ليوناردو دافينشي على لوحة الموناليزا قرر أن تكون أبعاد اللوحة 77 سنتيمترًا في 53 سنتيمترًا، واختار دافنشي أن يستخدم الألوان الزيتية؛ لأنه أراد أن تكون اللوحة عادية غير مبالغ فيها، فهو يعرض فيها امرأة ترتدي ملابس داكنة بلا جواهر أو ملامح فاتنة، وإنما تمثل ابتسامتها ونظرتها البعد الجمالي والنفسي في اللوحة التي أصبحت بعد ذلك مثار حديث ونقاش كبيرين بين الفنانين والنقاد والباحثين، وأصبح لها تأثير غامض وغريب في كل من ينظر إلى لوحة الموناليزا.
من الموناليزا؟ نظريات محيرة في هوية صاحبة اللوحة
سؤال شغل كثيرًا من الناس والفنانين والباحثين الذين أرادوا معرفة حقيقة المرأة التي رسمها ليوناردو دافينشي في لوحة الموناليزا، وهو أمر لم يحمل إجابة واضحة أو نهائية، وإنما حمل كثيرًا من التكهنات التي خرجت في صورة نظريات وضعها علماء ومؤرخون وفنانون.
نظرية ليزا ديل جيوكوندو (الجوكاندا)
على سبيل المثال افترض الفنان (جورجيو فيساري) عام 1550 أن لوحة الموناليزا تعود إلى امرأة إيطالية اسمها (ليزا ديل جيوكوندو)، وهي من فلورانسا، وزوجها تاجر معروف في المدينة، وهو ما جعلهم يطلقون على لوحة الموناليزا اسم (الجوكاندا).
فرضية والدة دافنشي (كاترينا)
فرضية أخرى عن السيدة التي رسمها ليوناردو دافنشي في لوحة الموناليزا تعود إلى طبيب الأعصاب وعالم النفس النمساوي سيجموند فرويد الذي قال: «إن ليوناردو دافنشي رسم والدته (كاترينا)».
هل رسم دافنشي نفسه؟ نظرية التشابه في الملامح
لكن مجموعة أخرى من العلماء قدموا افتراضًا ثالثًا يشير إلى أن ليوناردو دافينشي تقمص شخصية امرأة، ورسم نفسه في لوحة الموناليزا، وأرجعوا هذه النظرية إلى التشابه الكبير في الملامح بين صورة الموناليزا وصورة ليوناردو دافينشي.
لماذا اشتهرت الموناليزا؟ تحليل أسباب الشهرة الطاغية للتحفة الفنية
يعد سبب شهرة لوحة الموناليزا أيضًا من الأسئلة المحيرة التي تطرقت إليها دراسات عدة على مر العقود المتتالية، لكن الأمر لم يخرج بإجابة شافية، فلا يوجد تفسير مقنع لهذه الشهرة الكبيرة التي تحظى بها لوحة الموناليزا بين اللوحات العالمية الأخرى.
النسبة الذهبية في الموناليزا معجزة رياضية وفنية
قد تعود هذه الشهرة إلى وجود لوحة الموناليزا في متحف اللوفر الذي يعد من أهم المتاحف الموجودة في العالم وأكثرها زيارة من عشاق الفن والثقافة، وربما بسبب احتواء لوحة الموناليزا عددًا من المستطيلات والمثلثات والدوائر التي تمثل النسبة الذهبية، وهو ما يجعلها عملًا رياضيًا إلى جانب كونها عملًا فنيًا.
وعندما يتحدث عشاق الرياضيات والمهتمين بها عن لوحة الموناليزا تشعر كأنك أمام معجزة رياضية تظهر النسبة الذهبية في الرياضيات، وهي النسبة التي تتحقق عندما يتحقق مجموع عددين مقسومين على أكبرهما فيساوي النسبة بين أكبر العددين إلى أصغرهما، وهو أمر معقد يظهر ببراعة في لوحة الموناليزا، فإذا رسمنا مستطيلًا حول وجه السيدة الموجودة في اللوحة، وكذلك إذا قسمنا هذا المستطيل بخط يمر عبر عينيها، وهو ما يحقق النسبة الذهبية طولًا وعرضًا في اللوحة تحقيقًا مذهلًا.
سرقة لوحة الموناليزا عام 1911.. كيف حولتها الجريمة إلى أسطورة عالمية؟
ومن الأمور الطريفة والغريبة في الوقت نفسه التي عاشتها لوحة الموناليزا أنها تعرضت إلى السرقة عام 1911م، وهو ما زاد من شهرة اللوحة، وجعلها مثار حديث الناس في العالم، فقد تدافع الناس إلى زيارة متحف اللوفر للتحقق من سرقة لوحة الموناليزا، وهو ما دفع مدير اللوحات في متحف اللوفر إلى الاستقالة، والأغرب من ذلك اتهام الرسام العالمي بابلو بيكاسو بأنه ضالع في عملية سرقة اللوحة.
العثور على اللوحة والقبض على فينتشينزو بيروجيا
بعد نحو عامين من تحقيقات الشرطة ظهرت لوحة الموناليزا في إيطاليا عندما بلّغ أحد التجار الذين يعملون في اللوحات والآثار والأنتيكات الشرطة عن شخص عرض عليه بيع لوحة الموناليزا، وفعلًا تحركت السلطات، وقبضت على الرجل الذي تبين بعد ذلك أنه مهاجر إيطالي عاش في فرنسا، واسمه (فينتشينزو بيروجيا)، وأنه كان يعمل في تركيب زجاج الحماية للوحات، فاتفق مع زميلين له على عملية سرقة لوحة الموناليزا، والاختباء في إحدى خزانات المتحف طول الليل، وفي الصباح يهربون، لكنهم لم يستطيعوا بيع اللوحة على مدار عامين بسبب السلطات الحكومية ووسائل الإعلام حتى قبض عليه في إيطاليا.
رحلات الموناليزا النادرة.. لماذا تحفظت فرنسا بشأن سفر اللوحة الأشهر؟
غالبًا ما كانت السلطات الفرنسية متحفظةً جدًّا حيال سفر الموناليزا خارج فرنسا عكس اللوحات والأعمال الفنية الأخرى التي يسمح لها بالخروج إلى معارض ومتاحف في العالم.
زيارة الموناليزا إلى أمريكا في الستينيات
قد سافرت لوحة الموناليزا مرات نادرة؛ منها على سبيل المثال عندما وافق الرئيس الفرنسي (شارل ديغول) على طلب السيدة (جاكلين كينيدي) سيدة أمريكا الأولى في ستينيات القرن الماضي، فسمح بسفر الموناليزا على متن إحدى السفن لتعرض في متحف نيويورك، وكذلك في المتحف القومي للفنون في مدينة واشنطن، لتبقى الموناليزا ستة أسابيع في أمريكا، ويسمح لنحو 40 ألف شخص كل يوم بمشاهدة اللوحة الأشهر في العالم.
رحلة اللوحة إلى اليابان في السبعينيات
كذلك توجد رحلة أخرى للموناليزا إلى اليابان في السبعينيات، حيث استقبلها احتشاد مئات الآلاف من الأشخاص الذين يقدرون الفن والثقافة، ويرغبون في مشاهدة اللوحة عن قرب.
حماية الموناليزا.. إجراءات أمنية مشددة ومحاولات الإتلاف على مر التاريخ
نظرا لأهميتها الكبيرة لدى الفرنسيين فقد نقلوا لوحة الموناليزا إلى عدة مواقع مختلفة في ريف فرنسا في أثناء الحرب العالمية الثانية قبل أن تعاد إلى متحف اللوفر مرة أخرى بعد انتهاء الحرب عام 1945.
كذلك فإن مشاهدي لوحة الموناليزا يمكنهم رؤية بعض الانحناءات على اللوحة التي حدثت بفعل مقاومة التقويسات والإطار وعمليات الترميم التي نفذها الفنيون طيلة سنوات طويلة، فقد أضيفت بعض الدبابيس في اللوحة، واستخدم قماش ثقيل بعد ذلك بدلًا من الدبابيس لمنع توسع الشقوق الصغيرة التي ظهرت في اللوحة.
كانت اللوحة قد تعرضت إلى محاولة إتلاف عام 1956 بعد مجموعة من الهجمات التي حدثت، فقد رش أحدهم اللوحة بسائل حمضي، في حين رمى شخص آخر اللوحة بحجر، وهو ما جعل السلطات الفرنسية بعد ذلك تغير الزجاج الذي يحميها وتستبدل به زجاجًا مضادًا للرصاص.
وفي عام 1974 تعرضت اللوحة مرة أخرى إلى إلقاء الطلاء عليها، وهو ما تصدى له الزجاج قبل أن تتعرض إلى هجوم أخير عام 2009 بإلقاء كوب من القهوة، لكنه لم يصل إلى لوحة الموناليزا المحمية بالزجاج.
الغرفة الخاصة بالموناليزا في متحف اللوفر ومواصفاتها
يذكر أن لوحة الموناليزا قد وضعت في غرفة خاصة بها في متحف اللوفر عام 2003 بعد إجراء عملية تجديد شاملة في المتحف، وصلت نفقتها إلى أكثر من 6.3 مليون دولار، وضبطت درجة الحرارة في الغرفة الخاصة باللوحة على 43 درجة فهرنهايت، إضافة إلى استخدام سقف زجاجي للغرفة يسمح بمرور الضوء الطبيعي إلى لوحة الموناليزا.
تأثير الموناليزا في الفن الحديث.. كيف ألهمت عصر النهضة وما تلاه من حركات فنية؟
على الرغم من كونها لوحة واحدة، لا اتجاهًا فنيًا، فإن لوحة الموناليزا كان لها تأثير كبير في فناني عصر النهضة والعصور اللاحقة، فقد دفعت الموناليزا إلى حدوث ثورة كبيرة في عالم فن البورتريه المعاصر، وهي سبب لتشجع كثير من الفنانين على إجراء دراسات أكثر انفتاحًا وحرية، وربما كان لها تأثير كبير أيضًا في الملابس التي ارتداها الفنانون بعد ذلك، وهو ما أصبح مثار نقاش وجدل ودراسة على مر سنوات طويلة نظرًا لأن السيدة في لوحة الموناليزا ترتدي ثوبًا مجعدًا وفضفاضًا عند الرقبة خلافًا للملابس التي كانت ترتدى في ذلك الوقت التي كانت تتميز بالضيق، وهو ما جعل ليوناردو دافنشي يقول في كتابه (رسالة عن الرسم)، وهو الكتاب الذي نشر بعد وفاته: «الفن يجب أن يتجنب الموضة».
النسخ المقلدة للموناليزا وأشهرها نسخة برادو
من ناحية أخرى توجد نسخ عدة مقلدة من لوحة الموناليزا معظمها رسمه طلاب وعشاق ليوناردو دافنشي، ومن هذه النسخ المشهورة نسخة موجودة في متحف (برادو) في مدينة مدريد الإسبانية، وهي النسخة الأقرب إلى الموناليزا، ويقال إن الفنان الذي رسمها عمل عليها في أثناء رسم ليوناردو دافنشي اللوحة الأصلية حتى إن الكشف بالأشعة تحت الحمراء على اللوحة المقلدة أظهر وجود تغيرات زمنية تشبه تلك التغيرات التي تحدث للوحة الأصلية.
بينما تظل الموناليزا رمزًا للفن والجمال والسر الغامض، يبقى السؤال: ما الذي يجعل هذه اللوحة تواصل أسر وإلهام العالم عبر القرون؟ إن قصتها الممتلئة بالأسرار والسرقات والتأثيرات الفنية تذكرنا بأن الفن يحمل دائمًا أكثر من مجرد صورة؛ إنه نافذة إلى عوالم من التاريخ والثقافة والإبداع.
في نهاية هذا المقال الذي حاولنا فيه إلقاء الضوء على لوحة الموناليزا رائعة ليوناردو دافنشي وأشهر لوحة فنية في العالم نرجو أن نكون قد قدمنا لك المتعة والإضافة، شاركنا رأيك؛ هل تعتقد أن الغموض حول الموناليزا يزيد من قيمتها الفنية؟ دعنا نسمع أفكارك في التعليقات.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.