أسرار التحنيط عند قدماء المصريين

يعد القدماء المصريون أيقونة حضارية مهمة جدًّا في تاريخ البشرية، ودل على ذلك أنهم تفوقوا في مجالات عدة تفوقًا ملفتًا ومثيرًا للإعجاب، تفوقوا في العمارة والبناء، وتركوا أهرام ومسلات ضخمة تدل على مدى مهارتهم وتفوقهم.

لقد تركوا معابد فلكية وتقويمًا شمسيًا غايةً في الدقة، وأحد الأشياء التي أتقنوها، ودائمًا كانت تستوقف الباحثين والمؤرخين تفوقهم في علوم الكيمياء والطب، وعلى وجه التحديد ممارستهم عملية التحنيط.

ما عملية التحنيط؟

التحنيط عملية طبية معقدة، اشتهر بها قدماء المصريين، واستطاعوا بها أن يحافظوا على بقاء بعض الجثث المحنطة آلاف السنين، وفي الحقيقة عملية التحنيط لا تزال حتى الآن محاطة بهالة من التساؤلات والغموض، وهل تعد سرًا لا يعرفه أحد إطلاقًا؟

التحنيط عملية طبية معقدة استطاع بها قدماء المصريين الحفاظ على الجثث المحنطة آلاف السنين

هل هي أشبه بسر بناء الأهرام أو غيرها من الأشياء الغامضة التي اشتهر بها المصريون القدماء أم أن تفاصيل العملية معروفة بالنسبة للعلماء والباحثين؟ والأهم من ذلك لم حنط الفراعنة الجثث الخاصة بالملوك والملكات أصلًا؟ وهل نستطيع في عصرنا الحالي أن نجري عملية التحنيط مثلما كان الفراعنة يمارسونها؟

ما الغرض من عملية التحنيط؟

المصريون القدماء كانوا يؤمنون بوجود حياة في العالم الآخر، وأن الموت ليس نهاية حياة الإنسان، لكنه بداية مرحلة جديدة من الحياة، لكن اعتقادهم بمفهوم الحياة الآخرة غريب، فقد كان الفراعنة يعتقدون أنه إذا أراد الإنسان أن يجد حياة بعد الموت يجب أن يستوفي بعض الشروط، وأحد أهم هذه الشروط أن يظل جسده بعد الموت محفوظًا ومحافظًا على هيئته كما هي حتى يكون من السهل التعرف إلى ملامح جسده، وأيضًا يجب أن يكون قبره مفروشًا ومجهزًا بكل الأشياء التي يحتاج إليها في العالم الآخر، ولو تحققت هذه الشروط يستطيع أن يرجع إلى الحياة مرة أخرى بجسده المحفوظ وأدواته الموجودة في المقبرة، أما لو لم تتحقق هذه الشروط، فلن يستطيع العيش في حياة العالم الآخر، لذلك اتجه المصريون القدماء لما يسمى بالتحنيط.

التحنيط عملية طبية يجريها الكهنة وبعض المختصين بغرض أن يحافظوا على جثث بعض الملوك والأثرياء من التحلل والتعفن، والمدهش في الموضوع أنهم نجحوا في ذلك فعلًا، واستطاعوا أن يحنطوا جثثًا ومومياوات دامت آلاف السنين.

التحنيط عملية يجريها الكهنة والمختصون للحفاظ على جثث بعض الملوك والأثرياء من التحلل والتعفن

في البداية دعنا نطرح سؤالًا مهمًا: هل عملية التحنيط الخاصة بمومياوات الفراعنة تعد عملية سرية وغامضة لا يستطيع أحد أن يعرف عنها شيئًا؟

كيف تتم عملية التحنيط وما المواد المستخدمة؟

في الواقع انتشر بين عامة الناس أن عملية التحنيط شيء سري جدًّا، أشبه بوصفة سرية لا يعرف صنعها ولا خطواتها، لكن في الحقيقة هذا الكلام غير صحيح، كل الخطوات الخاصة بعملية التحنيط يعرفها العلماء والمختصون في عصرنا الحالي، وعندهم القدرة على محاكاتها كما كان الفراعنة يمارسونها، ولو كنت تريد أن تعرف كيف تنفذ عملية التحنيط كل ما عليك هو أن تحضر الأدوات الخاصة بالتحنيط.

نحتاج إلى خطاطيف وسكينة حادة ووعاء فيه زيت وبعض شمع العسل وصمغ نباتي وكتان ونشارة خشبية وبخور وعدة عطور طبيعية، إضافة إلى نبيذ النخيل ومجموعة من الأعشاب والمواد الطبيعية الأشبه بالتوابل، ونحتاج أيضًا إلى بعض الأوعية المصنوعة من الحجر الجيري أو الكالسيت، وأخيرًا بقيت كمية كبيرة جدًّا من ملح النطرون، ولو كل الحاجات السابقة كانت موجودة لأصبحت جاهزًا لعملية التحنيط.

أي خلطة في العالم أو تركيبة معينة تتكون من شقين؛ الشق الأول هو مكونات الخلطة، وهي مجموعة من المواد لها تأثير ودور مهم، لكن من الممكن أن نستغني عن بعضها أو أن نستبدل بها أبدال أخرى.

أما الشق الثاني فهو العامل الرئيس القائم عليه كل شيء، العنصر الرئيس الذي لا يمكن أن نستبدل به وألا نستغني عنه إطلاقًا، وبناء عليه المكونات الخاصة بعملية التحنيط تتمثل في البخور والعطور والأعشاب الطبيعية، أما العنصر الأساسي الذي تقوم عليه فكرة التحنيط هو ملح النطرون.

نحتاج  في التحنيط إلى زيت وشمع العسل وصمغ نباتي وكتان ونشارة خشبية وبخور وعدة عطور طبيعية

ملح النطرون مطهر ومجفف، وهو المكون الرئيس الذي استخدمه الفراعنة في التحنيط، النطرون مركب كيميائي يتكون من ملحين قلويين، هما كربونات الصوديوم وبيكربونات الصوديوم، والمصريون كانوا يحصلون عليه من أحواض الأنهار المجففة، ومن بعض المدن المصرية؛ مثل مدينة وادي النطرون الذي كان يطلق عليها قديمًا اسم وادي الملح.

خطوات التحنيط

التحنيط ببساطة هو منع الخلايا من التحلل بسبب مهاجمة البكتيريا وإنزيمات التحلل ببعض المواد التي تتغلب عليها كأملاح النطرون، ولو استطعنا أن نعزل الجسم ضد البكتيريا والإنزيمات، بذلك نستطيع أن نحافظ على بقائه مدة طويلة من الزمن.

أما بقية خطوات التحنيط التي كان يفعلها الكهنة هي أن يأتوا بالجثة، ثم يفردونها على منضدة طويلة، ثم يستخرجون المخ، ولو تمعنا في المخ البشري نجد أنه مكون من عدد هائل من الخلايا العصبية، وللأسف تموت وتتحلل بسرعة، وهذا يسبب مشكلة كبيرة للأشخاص القائمين على التحنيط، لذا يجب أن يستخرج من الدماغ، دون كسر جمجمة المومياء.

وفي الحقيقة إن طريقة استخراج المخ تكون قاسية في البداية، فهم يدقون مسمارًا طويلًا في الجمجمة، ثم يهرسون المخ عبر الثقب الّذي عملوه في الدماغ، وبعد ذلك يقلبون الجثة على وجهها، ويبدأوا في استخراج بقية المخ عبر الفتحة التي عملوها، ومن الفتحتين الموجودتين في الأنف يبدؤون بضخ كمية من الصمغ النباتي داخل الجمجمة من الفتحات نفسها حتى يمنعوا تحلل الدماغ من الداخل، وعليه لا يبقى في الدماغ أي خلايا عصبية قابلة للتحلل.

في الواقع المخ البشري ليس العضو الوحيد الذي يتحلل بسرعة، فتوجد أعضاء أخرى كالكبد والأمعاء وغيرها تحتوي بطبيعتها إنزيمات هاضمة، لذا لو تُركت تلك الأعضاء موجودة ستبدأ الإنزيمات الخاصة بها تلتهم الجثة من الداخل؛ لذلك بدأ الكهنة يتخلصون من الأحشاء الموجودة في البطن، وفعلًا كانوا يعملون فتحة طولية في الجانب الأيسر من الجثة، ويستخرجون منها كل الأعضاء الداخلية، لكن الغريب أنهم كانوا يستخرجونها عدا القلب؛ لأنهم كانوا مؤمنين أن القلب هو مقر الروح والعاطفة، وله دور مهم في العالم الآخر.

التحنيط ببساطة منع الخلايا من التحلل بسبب مهاجمة البكتيريا وإنزيمات التحلل ببعض المواد

ماذا بعد استخراج الأعضاء؟

ما مصير الأعضاء التي كانوا يستخرجونها من البطن؟ هل كانوا يبيعونها أم يتخلصون منها؟ في الحقيقة لم يكونوا يتخلصون من أي شيء، كانوا يضعون كل عضو من أعضاء الجسم في قارورة مملوءة بملح النطرون على حدة لاعتقادهم بأنها تتجمع داخل الجسم مرة تانية في العالم الآخر، وكل عضو منها يرجع إلى مكانه الأصلي الخاص به.

 والآن بعدما أزال المحنطون كل محتويات البطن ينظفون التجويف الداخلي في الجسم، ويغسلونه؛ ليكون الجسم مستعدًا للجزء الثاني من عملية التحنيط الذي يعتمد على الملح.

ملح النطرون

الأملاح عمومًا لديها قدرة كبيرة على منع التعفن، وذلك بقدرتها الشديدة على القضاء على البكتيريا، ولو استخدمنا ملح النطرون فالموضوع يكون فعالًا أكثر؛ لأن الأملاح القلوية الموجودة داخله سواء الكربونات أم البيكربونات تجعله وحشًا كاسرًا للبكتيريا والإنزيمات؛ لذا يحشو المحنطون تجويف البطن بأكياس ولفائف من الكتان منقوعة في ملح النطرون حتى يقضوا على البكتيريا والإنزيمات من ناحية، ومن ناحية أخرى ليعطوا الجسم الانسيابية، فيكون أشبه بالصورة البشرية الطبيعية عندما كان تجويف الجسم الداخلي مملوءًا بالأعضاء.

 ومن المدهش أن مهمة ملح النطرون لا تتوقف عند لفائف الكتان المحشوة في بطن المومياء، فهو ينقعون الجثة كاملة في كمية مهولة من ملح النطرون، شيء أشبه بحمام من الملح، ثم يتركونها منقوعة نحو 35 يومًا متواصلًا، وكل هذا بغرض الحفاظ على الجلد الخارجي للجسم وإكسابه مناعة ضد البكتيريا والإنزيمات.

وبمجرد أن ينزعوا الجثة من ملح النطرون بعد مرور 35 يومًا تكون الأملاح القلوية الموجودة داخله استطاعت أن تمتص كل السوائل الموجودة في الجسم، ليخرج منها هيكلًا صلبًا خاليًا من السوائل، وليحصلوا في النهاية على جسم دون سوائل ودون بكتيريا ودون إنزيمات هاضمة، وذلك بنقع الجسم في ملح النطرون وإزالة كل الأعضاء الداخلية التي في داخله، ما يجعل الجسم لا يتحلل؛ لكن لا تزال رائحة الجثة المحنطة ليست مستحبة إطلاقًا.

 ملح النطرون يحارب التحلل؛ لكنه لا يقضي على الروائح كلها، لذلك يلجأ الكهنة إلى واحدة من المكونات الخاصة بعملية التحنيط، فيصبون كمية كبيرة من صمغ الأشجار على محيط الجسم من الخارج، ويضيفون مزيجًا من الشمع والزيوت، وتدلك الجثة كما المساج.

التحول إلى مومياء

ثم تأتي دور الخطوة المهمة جدًّا، وهي لف المومياء بمجموعة كبيرة من الأقمشة والكتان حتى تصل إلى الشكل النهائي المألوف للجثث الفرعونية المحنطة، وبعدها يأخذون المومياء ويضعونها داخل مجموعة من التوابيت المتداخلة، وفي الغالب يكون التابوت الأخير الذي يحتوي داخله على كل التوابيت الأخرى تابوتًا ضخمًا من الحجارة، والتابوت الأول منها تنقش صورة الملك عليه باستخدام ألوان معينة.

يجب أن يرتدي رئيس المحنطين قناع أنوبيس إله التحنيط والعالم السفلي في اعتقاد المصريين القدماء

وإحدى الخطوات المهمة في أثناء التحنيط ارتداء رئيس المحنطين قناعًا معينًا في أثناء تأديته كل الخطوات السابقة، والقناع هذا هو قناع أنوبيس إله التحنيط والعالم السفلي في اعتقاد المصريين القدماء، وهو قناع على هيئة حيوان يشبه الكلب ولونه أسود تمامًا.

وبعدها يدخلون المقبرة، ويتركون بعض الأشياء التي من الممكن أن يحتاج إليها الميت في العالم الآخر على حد اعتقادهم، والأشياء تلك تكون الجواهر والكنوز والمقتنيات الذهبية مرورًا بالأثاث والملابس والأوعية وغيرها، وكمية الأشياء التي توضع في المقبرة تكون بناء على مكانة الشخص وثرائه، لا سيما لو كان هذا الشخص ملكًا أو أحد أفراد الأسرة الملكية.

وبعدها يؤمنون المقبرة ضد اللصوص والمعتدين بنشر بعض المواد الكيميائية السامة في أمكنة معينة بغرض منع أي شخص وتخويفه من اقتحام المكان، ويخرج الكهنة من المكان، ويقفلون المقبرة وراءهم للأبد، وتنتهي رحلة التحنيط الخاصة بالمومياء.

المومياء المحنطة ليست جثة كاملة كما وضحنا، فالجسم الذي يحنط يكون منزوع المخ والكبد والمعدة والأمعاء وغيرها من الأعضاء، لكن هذا لا يمنع أن الموضوع متقن ومثير للإعجاب، لا سيما أن العلماء استطاعوا أن يحصلوا من أجسام بعض الموميات المكتشفة حديثًا على عينات من الحمض النووي الخاص بها، وأيضًا استطاعوا أن يجروا بعض عمليات التشريح التي بها يتعرفون على معلومات كثيرة مثل أسباب وفاة كل جثة منها على حدة، بل أيضًا تعرفوا إلى معلومات خاصة بحياة المصريين القدماء عمومًا، وعرفوا أيضًا أن عددًا كبيرًا من المصريين القدماء كانوا مصابين بأمراض مزمنة مثل أمراض القلب والشرايين والسل وغيرها من الأمراض.

تلف المومياء بالأقمشة والكتان حتى تصل إلى الشكل النهائي المألوف للجثث الفرعونية المحنطة

تلك المعلومات أخذت بعد التشريح الطبي لجثث مر على وفاتها آلاف السنين، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مدى إتقان المصريين القدماء لعلوم الكيمياء والطب، وفي العلوم المختلفة.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

بالفعل التحنيط من أشد الموضوعات الرائعة
والتي بالفعل مثيرة للاعجاب ... احببت المقال جدا ...
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة