رغم أن العلم قد نفى عن القلب وظيفة حمل المشاعر والأحاسيس، فإنه لا يزال يتفاعل مع الأحداث بلغته الخاصة، فتتماوج ضرباته مع الأحداث المثيرة صعودًا وهبوطًا حتى لنكاد نشعر أن الحياة ذاتها تقترب وتبتعد عنا، مع حركات القلب التي تؤمن وجود أجسادنا الحية، والتي تتفاعل ذاتها مع الأحداث الخارجية.
وأيًّا كان المكان الذي تتولد وتختزن فيه المشاعر، فلا يزال تغاير وتمايز نشاط القلب مرتبطًا بهذه المشاعر، ولا نزال نحمِّل القلب مسؤوليات كبيرة عن حياتنا ووجودنا وسعادتنا وحزننا.
قد يعجبك أيضًا من أجل قلبك.. خطوات مهمة للحفاظ على صحة القلب
آلام القلوب الجريحة
عندما نستمع لإحدى قصص القلوب الجريحة تنتابنا فورًا أحاسيس ومشاعر حزينة، ليس لأننا فقط تفاعلنا مع الحدث، ولكن لأننا جميعًا مررنا بتلك اللحظات الأليمة التي تستدعي الأسي والحسرة، وتتركنا في حيرة من أمرنا.
ونتساءل.. ماذا فعلنا كي تُجرح قلوبنا؟
خاصة ممن لم نتوقع منهم أبدًا أن يكونوا مصدر آلامنا؛ لأنهم كانوا يومًا ما الأقرب إلى مشاعرنا والذين كسرنا بيننا كل الحواجز، فكانوا لنا وكنا لهم الأمن الأمان.
لكن مع دورة وانقلاب الأيام أصبحوا مصدر العداء والإيلام، وأقاموا بيننا الحواجز وزرعوا الألغام، حتى أصبحنا نعيش الحياة وفي القلب غصة وفي العقل قرصة.. يا لها من قصة.
قد يعجبك أيضًا متلازمة القلب المنكسر متلازمة تاكوتسيبو
ماذا يجرح القلوب؟
يوجد فارق بين ما نحس به لحظات الإخفاق وما نحس به لحظات جرح وانكسار القلوب.. نعم نحن نحزن ونتألم في الحالتين ولكننا في الحالة الثانية نحس إحساسًا غريبًا إذ توجد دائمًا في القلب غصة، فماذا تعني الغُصة؟
تقول المعاجم إن الغصة هي: أَلَمٌ وَحُزْنٌ وهمٌّ وغمٌّ شديد متواصل، ولكنها في لغة المشاعر ليس فقط هذا، فكلنا أحسسنا بجرح القلب وأحسسنا بالغصة إحساسًا مركبًا يجمع بين الألم والحسرة والعتاب، ففي هذه اللحظة قد تقول المشاعر..
لقد تفانيتُ في الحب والعطاء فلماذا أجني النكران وشر الجزاء؟ فنتحسر على حالنا ومآلنا، وقد يمتد حوار المشاعر فتعاتب الزمن ومن ظلمها متسائلة لماذا فعلت بي كل هذا ولم أذنب في شيء؟
إذن الغصة تعني ألمًا من نوع خاص، نوع فريد، هو ألم يحمل الحسرة والعتاب، وهو إحساس نتعاطف به مع أنفسنا ونتعاتب به مع من ظلمنا أو هجرنا أو أنكرنا حقوقنا.
قد يعجبك أيضًا متلازمة القلب المكسور.. احذر الحزن والقلق
فمتى نتعرض لجرح القلوب؟
نتعرض لجرح القلوب عندما نحاول دائمًا أن نفعل الصحيح فلا نخطئ ولا نظلم ولا نتعدى، ثم يأتينا الظلم والغبن من حيث لا ندري ولا نحتسب.
ففي تعاملاتنا في بيئة ما قد نؤدي واجبنا على أكمل وجه، فلا نجد التقدير المناسب، بل على العكس، قد نجد من لا يتفانون مثلنا ينالون التبجيل، في حين نتعرض نحن للإساءة والتنكيل.
وفي البيئة الاجتماعية عندما تساعد الغير بلا حساب أو غياب، إذا وقعت لا تجد من يساعدك على النهوض، وكأن الكل يجري في سباق لا ينتهي فلا يجد الوقت كي يلتفت أبدًا لندائك.
وفي العلاقات الإنسانية عندما تحب وتتفانى وتتسامح وتعطي بلا حساب، لا تجد إلا عدم العرفان والإهمال والهجران.
ففي جميع الحالات يوجد خلل أكيد بين طرفين، إذ لا يكون الجزاء على قدر العطاء، لذا تظل دائمًا غصة القلب مستمرة متقدة، فلا تستريح النفس البشرية إلا عندما تتعادل كفتا الميزان.. هكذا جُبلت
قد يعجبك أيضًا ما هي أعراض النوبة القلبية؟
أسباب جرح القلوب
إذن، ما يجرح القلوب على جميع الصُّعُد هو الظلم سواء صدر من العامة أو الخاصة، من القريب أو البعيد، من الرئيس أو المرؤوس، أما الظلم ذاته فيأتي نتيجة عوامل كثيرة أهمها:
الجهل
كثيرًا ما نظلم الآخرين دون أن ندري لأننا نجهل حقوق أو مشاعر الآخرين.
الأنانية
مما لا شك فيه أننا جميعًا أنانيون بدرجة أو أخرى، أي نميل للعمل للأنا أي لأنفسنا أكثر من الآخرين، وهذا طبيعي لأننا نعيش داخل أنفسنا وليس داخل الآخرين.
وعلى هذا قد يؤثر هذا في قراراتنا نحو الآخرين، فميلنا نحو أنفسنا هو ما نعرفه بمسمى "الهوى الشخصي"، أو "الأهواء الشخصية"، أي الميل لتحقيق مكسب أو مصلحة شخصية.
التنافسية
نتنافس جميعًا لأننا في حياتنا نسعى للوجود والارتقاء وفي أثناء سعينا قد نتصادم مع الآخرين، فهم أيضًا يسعون نحو تحقيق وجودهم والارتقاء به.
وفي هذا الصدام نسعى دائمًا لتمييز أنفسنا، ما قد ينعكس سلبًا أو ظلمًا على الآخرين ربما دون أن ندري في أحيان كثيرة.
منطق القوة
كثيرًا ما نختال بقوتنا ونستغل هذه القوة أحيانًا في ظلم الآخرين، خاصة إذا كنا في موقف أفضل منهم على خريطة توزيع السلطة، فقد نتخذ قرارات لا تراعي حقوق الآخرين عمدًا أو وجهلًا لأننا نمتلك صرامة القوة وغرور القوة.
الهوى
لا شك أنه توجد مجموعة من الميول والأهواء تتكون داخل شخص ربما دون أن يدري أحيانًا، وهذا يجعل قراراتنا تذهب لمصلحتنا أو لمصلحة الأقربين رغم أننا نعلن غير ذلك.
قد يعجبك أيضًا لماذا يجب أن نعتني بقلوبنا أكثر ممّا نفعل؟
كيف تتفاعل القلوب الجريحة؟
توصل التحليل السابق إلى أن الخلل بين العطاء والجزاء هو ما يجرح القلوب، ولكن هذا لا يعني أن القلوب العطَّاءة تتفانى فقط كي تحصل على الجزاء، ولكنها فقط تخشى من الظلم والطغيان.
فالظلم هو الهاجس الأكبر الذي يقلق مضاجعنا لأنه لن يجرح فقط قلوبنا، ولكنه قد يهدد حياتنا ووجودنا في النهاية.
وعندما نتعرض للظلم فقد ننقسم لأربعة فرق:
الفريق الأول يحمل أساه في نفسه ويستمر في عطائه وعمله، ويعد الظلم خطأ سواء أكان مقصودًا أم غير مقصود، ولكنه طول الوقت يشعر بغصة في القلب تحمل الحسرة والعتاب والأنين في أطوائها، ورغم ذلك يظل طول الوقت مسالمًا متناغمًا حاملًا همه في طيات نفسه.
أما الفريق الثاني فسيحاول دائمًا أن يقتص ممن ظلمه، ويظل ردحًا يحارب ويقاوم ينتصر أحيانًا وينهزم أحيانًا.
أما الفريق الثالث فهو الذي يحول ما عاناه من الظلم نحو من هم أقل منه قدرًا ومنزلة، أي يظهر ما تعرض له من ظلم أو ما اعتقد أنه ظلم يومًا على البرآء الذين لم يسيئوا له يومًا، ولكن حظهم العثر أوقعهم في طريقه.
أما الفريق الرابع فهو من فهم مدى شر وعبثية ظاهرة الظلم، لذا يحاول بكل ما أوتي من قوة أن يفهم كيف سارت آلية الظلم، ومن ثم يعمل على وضع آليات تمنع تداول وتوارث آليات الظلم جيلًا بعد جيل.
ويقول ضميره الداخلي: «لقد فهمت معنى الظلم» فمن الأصوب ألا أمارسه على الآخرين بأي ثمن.. بل إن هذا الفريق يسعى في سلوكياته دائمًا لمساعدة المظلوم أو من يمكن أن يتعرض للظلم تحت أي ظروف؛ لأنه يدرك كم سيسدي من معروف إذا نجح في رسالته.
قد يعجبك أيضًا حوار دائر بين العقل والقلب.. قصة خيالية
نحو مجتمع خالٍ من القلوب الجريحة
يا له من هدف نبيل وشديد الْخَطَر، فمن الخطورة بمكان أن تعيش بين أناس يحملون بين أضلعهم قلوبًا جريحة، فهؤلاء قنبلة موقوتة قد تنتظر فقط لحظة الانفجار.
فكثير من المجتمعات التي ينتشر فيها الظلم تكون على شفا حفرة من الانتظار كي تنفجر في صورة ثورة أو فوضى أو دمار، ومن الحكمة ألا ننتظر لحظة الانفجار حتى نعمل وحتى نصوب، وإذا تركنا الأمور تتفاقم حتى تصل لمرحلة الانفجار سيكون من الصعب تدارك الأمور.
لذا يجب من البداية العمل على إزالة أسباب جرح القلوب، ولا شك أن ذك يأتي بطريقة عكسية على مولدات ظاهرة القلوب الجريحة كما يلي:
الجهل
يجب أن نتعلم من البداية ما حقوقنا وما حقوق الآخرين حتى لا نظلمهم أحيانًا وحتى نكون على وعي تام بمدى عدالة قراراتنا، ويجب أن نتعلم ذلك خلال جميع مراحل حياتنا وأنشطتنا وعلاقاتنا وارتباطاتنا، وهذا مجال خصب للحقوقيين للبحث والاكتشاف فيه.
الأنانية
يجب أن نتعلم أننا لسنا الوحيدين على الأرض، إنما لنا شركاء، وأن سعادتنا لن تتحقق فقط بتحقيق مصالحنا، إنما بالتحقيق المتوازن لمصالح الجميع، وأن هذا لن يضيرنا شيئًا، بل إنه يؤمن سلامة وسعادة وجودنا.
التنافسية
يجب أن نتعلم أننا جميعًا لنا حق التنافس، ومن يتفوق اليوم سنفرح له ولكن لنا دائمًا حق المنافسة، فهذا حق للجميع، وكما أعطينا أنفسنا هذا الحق فيجب ألا نمنعه عن الآخرين.
ولكن يجب أن نتعلم أصول المنافسةالشريفة التي تستهدف فقط الارتقاء بالنفس، دون الهجوم على الآخرين أو الإساءة لهم أو تشويه سمعتهم.
منطق القوة
كلما زاد نصيبنا من القوة، زادت مسؤوليتنا نحو عدالة قراراتنا وحسن إدارة هذه القوة لتحقيق العدل ومصلحة الجميع، وليس مصالحنا الشخصية.
الهوى
يجب أن نتعلم منذ الصغر كيف نتخلص من الأهواء الصغيرة ونجعل هوانا الأكبر هو تحقيق العدل، فيا له من هدف سامٍ نبيل إن نجحنا في تحقيقه، فما أجمل أن تعيش في مجتمع تظله ظلال العدل ويسير فيه البشر في سلام آمنين.
الشفافية
لا شك أن مبدأ الشفافية هو ما يضمن تحقيق العدل، فالمثالب والانحرافات لا تحدث إلا في الخفاء، فالإعلان عما نفعل ونحس بأمانة مع من نتعامل معهم، سوف يضمن بدرجة كبير تحقيق مجتمع خالٍ من القلوب الجريحة التي طعنت في الخفاء أو الاستخفاء.
هذه النقاط الست تستطيع أن تبني وترسخ استراتيجية تربية، تخلق جيلًا جديدًا ومجتمعًا سليمًا معافى يشعر الجميع فيه بالعدل والأمان، فيتقدم سريعًا نحو الارتقاء والبنيان.
يوليو 14, 2023, 3:56 م
إنه كاتب يمتاز بالجوده في لإختياره للكلمة
وكأنهُ من أساتِذة عِلم النفس إحترامي وكُلِ تقديري لك أ. د (محمود سطوحي)
يوليو 16, 2023, 3:37 ص
عميق الشكر لكلماتك الطيبة التي تنم فكر كشاف ووجدان شفاف أ. طلال عبد الله الخضرمي
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.