أزمة الهوية في العصر الرقمي: بين زيف الصورة وواقع الذات

في عالم يغمره التسارع الرقمي والانفتاح على ثقافات متداخلة بات الفرد غارقًا في أزمة هوية عميقة، فتتلاشى معالم الذات أمام رغبة الانتماء وقبول الآخرين.

فمن أفكار إريك فروم عن (الخوف من الحرية) إلى رؤى جان بودريار عن (عصر الرموز) تتعدد آراء المفكرين عن هوية الإنسان المعاصر.

المقال يستعرض دراسات حديثة تكشف تأثير التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي في شباب يشعرون بالتشتت والغربة الداخلية، فما طبيعة هذا الصراع؟ وكيف يمكننا مواجهة زيف العالم الرقمي لاستعادة صوتنا الداخلي؟

قد يهمك أيضًا كيف غيَّرت التكنولوجيا والتحول الرقمي نمط الحياة في العالم؟

أزمة الهوية والعالم الرقمي

تتجلى أزمة الهوية في عالمنا المعاصر كدوامة تجتذب النفس البشرية نحو أعماق غير مكتشفة، فلا يعود المرء يدرك من هو في زخم هذا العصر المتسارع، وفي ظل التكنولوجيا التي تربطنا بكل شيء إلا أنفسنا، تتعاظم هذه الأزمة.

يقول إريك فروم في كتابه الخوف من الحرية: «يعتقد الإنسان المعاصر أنه حر، لكنه في الواقع يعيش مقيدًا بأغلال غير مرئية، أغلال الرغبة في الانتماء، في قبول الآخرين له»، فالهويات لم تعد تقاس بالأصل أو الثقافة، بل أصبحت تذوب في بحرٍ من التأثيرات التي لا تهدأ.

في دراسة نشرتها مجلة الأبحاث الاجتماعية المعاصرة عام 2020 يظهر أن أكثر من 60% من الشباب يشعرون بأنهم تائهون أو غير متأكدين من هويتهم الحقيقية، ما ينعكس على الصحة النفسية، ويزيد من معدلات القلق والاكتئاب.

هذه الإحصاءات تسلط الضوء على العالم الرقمي الذي بات يمثل مرآة مخادعة نرى فيها انعكاسات متضاربة من ذاتنا.

يقول الفيلسوف الفرنسي جان بودريار: «في عصر الصور تُستبدل بالواقع الرموز»، فالتواصل الرقمي يمنحنا الهوية التي نريد، لا تلك التي نملك، حينها ينشأ الانفصام، ويتشتت الإنسان بين الصورة التي يرغب في تقديمها.

والحقيقة التي قد يود إخفاءها، وأظهرت دراسة لجامعة هارفارد أن قضاء وقت طويل على وسائل التواصل الاجتماعي يعزز الشعور بالانعزال العاطفي، فيعيش الشخص في صراعات بين رغبة في القبول الاجتماعي وشعور داخلي بالغربة.

يرتبط هذا الانفصام بالضغط الذي يمارسه المجتمع على الأفراد ليظهروا دائمًا بنسخ مثالية، خالية من العيوب، حتى بات المرء يشعر بأنه مراقب من مجتمعه الإلكتروني دون انقطاع، يتردد صدى هذا المأزق في كلمات عالم النفس كارل يونغ الذي أشار إلى أن «القناع الاجتماعي قد يقودنا إلى خسارة ذواتنا الحقيقية».

فكم من مرة نفضل الصمت في مواقف تستحق منا المواجهة، وكم من مرة نرسم ابتسامة زائفة كي ننال إعجاب العالم، هذه السلوكات مع بساطتها الظاهرة فإنها تخلق في أرواحنا غربة وصراعًا صامتين.

قد يهمك أيضًا كيف سيؤثر التحول الرقمي في حياتنا مستقبلًا؟

الاغتراب الاجتماعي

يقول الفيلسوف سورين كيركغور: «كلما اقترب الإنسان من ذاته الحقيقية شعر بثقلها»، هذا الثقل قد يبدو غير مريح، لكنه بوابة لفهم أعمق.

في وقتنا هذا يهرب كثيرون من هذه المواجهة، فيصبح الفرد ضحية للنسخ المتعددة من ذاته التي صاغها العالم الافتراضي له، وفي دراسة عن الاغتراب الاجتماعي أعدّتها جامعة كامبريدج وُجد أن الشباب الذين يعتمدون على بناء هويتهم بالاعتماد على آراء الآخرين يعيشون أزمات نفسية عميقة عند التعرض إلى النقد، ما يظهر هشاشة الهوية المعتمدة على القناع الإلكتروني. 

ولعل الشاعر الألماني رينر ماريا ريلكه قد وصف هذه الحالة بدقة حين قال: «إن أراد الإنسان أن يجد ذاته فعليه أن يغرق في وحدته»، هذا الغوص في الذات أصبح ضروريًا، لكن الإنسان المعاصر يخشاه مفضلًا الهروب إلى العالم الخارجي لعلّه يجد الجواب بين آلاف الأصوات في حين يضيع صوته الخاص.

وعلى الجانب الآخر نجد أن البحث عن هوية مستقلة ينطوي على تحديات هائلة في ظل معايير النجاح السائدة.

فقد أوضحت دراسة منشورة في مجلة علم النفس الاجتماعي المعاصر أن الأفراد الذين يتمتعون بوضوحٍ أكبر لهويتهم يواجهون صعوبات أقل في مقاومة تأثير الضغوط الاجتماعية، ويمتلكون قدرة أعلى على اتخاذ القرارات المستقلة.

بيد أن هذا الوضوح بات مهددًا اليوم بتأثيرات لا حصر لها، من السوشيال ميديا إلى مقاييس النجاح المادية التي تطغى على حياتنا.

ختامًا ربما آن لنا أن ندرك أن العودة إلى الذات هي السبيل الوحيد لفهم معنى الهوية في زمن يتهاوى فيه الثابت، إنها رحلة شاقة، لكنها الرحلة التي تميز بها الإنسان عبر العصور، وكما يذكر نيتشه: «لا يوجد طريق أقصر أو أسهل للوصول إلى جوهر الإنسان من التأمل الصادق».

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة