تخلف، فساد، بيع شهادات، وحفظ وتلقين بلا هوادة. إن الناظر لحال الجامعات العربية اليوم يواجه مفارقة مؤلمة: فبينما يزخر تاريخنا بمنارات علمية عريقة كجامعة القرويين في فاس، التي تعد من أقدم جامعات العالم، نجد أنفسنا اليوم في ذيل قوائم التصنيفات الأكاديمية العالمية. هذه الحسرة السنوية تدفعنا للتساؤل: كيف وصلنا إلى هذا المستوى من التدني؟ ولماذا تخلّفنا عن ركب الجامعات النخبوية؟
في هذا المقال، نغوص في أعماق أزمة الجامعات العربية، متجاوزين الأعراض السطحية إلى جذورها الاجتماعية والنفسية المعقدة.
حسرة التصنيفات العالمية: أين تقف جامعاتنا؟
في كل سنة، تصدر تصنيفات عالمية لأفضل الجامعات، وتصيبنا الحسرة حين نرى المكانة المتدنية لجامعاتنا العربية. ففي تصنيف كيو إس العالمي للجامعات (QS World University Rankings) عام 2024، لم تدخل سوى 14 جامعة عربية ضمن قائمة أفضل 500 جامعة. تتوزع هذه الجامعات في المملكة العربية السعودية، الإمارات العربية المتحدة، وقطر، ما يظهر تباينًا كبيرًا في مستوى التعليم العالي بين الدول العربية، ويظهر فجوة هائلة بين هذه النخبة القليلة وبقية جامعات المنطقة.

نموذج الجامعات الغربية: بناء العقول لا الشهادات
دائمًا ما تتنافس الجامعات الأمريكية والبريطانية على تقديم أفضل تعليم، وتوفير كل السبل الممكنة لبناء ملكة التفكير النقدي قبل الحفظ والتلقين، الهدف الأسمى هو تنشئة مواطن يقدّر العلم ويسعى لتحصيله. وتشجع هذه الجامعات على المطالعة، والعمل الجماعي، وممارسة الهوايات المتنوعة. فالهدف في الأخير ليس الحصول على شهادة فحسب، وإنما استيعاب كل طالب لدوره الفاعل في مجتمعه.
تشريح الأزمة الخانقة في الجامعات العربية
بالنظر إلى جامعاتنا، نجد حالة من التخبط والعشوائية، وهذا راجع في الأصل لضعف التوجيه المدرسي، حيث يلج الطالب إلى الجامعة وهو لا يدري ما التخصص المناسب لتطلعاته، فتتم عملية الاختيار باعتباط. وإن أراد الطالب مقاومة هذا الواقع واختار الدراسة في معاهد خاصة أو الهجرة، فإنه يصطدم بمصروفات باهظة تثقل كاهل أسرته بالديون.

بيد أن إشكالية التعليم في جل الجامعات العربية لا تقتصر أسبابها على ضعف التوجيه أو تقادم المناهج، بل هي أعقد من ذلك.
الجذر الأعمق: «التخلف الاجتماعي» كعائق بنيوي
يمكن تلخيص الأزمة العميقة في كلمة واحدة: (التخلف). ليس بمعنى الشتم، بل بصفته مصطلحًا علميًّا. وهو ما يصفه الدكتور مصطفى حجازي في كتابه القيّم (التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور)، كمفهوم يصف بنية نفسية واجتماعية معيقة للتقدم. هذه البنية الاجتماعية والاقتصادية السائدة تُفشل أي محاولة حقيقية للتغيير.

وإلا فلماذا نرى أشخاصًا متعلمين لكنهم لا يزالون يؤمنون بالخرافات وعادات الشعوذة؟ لماذا نلاحظ هذا التناقض الصارخ بين تراجع نسب الأمية واستمرار الخرافة في السيطرة على العقول؟ يقول الدكتور مصطفى حجازي في كتابه: «ما زال التعليم في مختلف مراحله وبشكل إجمالي، سطحيًا في معظم البلدان النامية في طرقه ومحتوياته. طرق التعليم ما زالت تلقينية إجمالًا تذهب في اتجاه واحد، من المعلم الذي يعرف كل شيء ويؤدي الدور النشيط، إلى التلميذ الذي يجهل كل شيء ويُفرض عليه دور التلقي الفاتر، دون أن يشارك أو يناقش أو يمارس، دون أن يُعمل فكره فيما يلقن.. إنه في أحسن الأحوال يحفظ العلم دون أن يستوعبه، يحفظ للامتحان دون أن تعد شخصيته إعدادًا علميًّا».
هناك إذن رابط متين بين نمط التفكير السائد في المجتمع وفشل التعليم في تغيير الواقع. لا يمكن أن نتوقع من مجتمع تحكمه الغيبية والخرافة، أن يقدم تعليمًا يبني العقول.
معضلة اللغة: هل الحل في تعريب التعليم العالي؟
يتفق الدكتور حجازي وكثير من الباحثين على أن طبيعة المناهج العربية التي غالبًا ما تُدرّس بلغة أجنبية (لغة ثانية أو ثالثة)، تؤثر جذريًا في استيعاب الطالب. ويدعو باحثون، من بينهم الدكتور نزار الدين في بحثه حول (تعريب التعليم العالي في لبنان)، باستمرار إلى تعريب التعليم، لكن دعواتهم غالبًا لا تجد آذانًا صاغية.
الطريق نحو الإصلاح: الإنسان أولًا
لا يمكن لأي إصلاح أن ينجح دون إصلاح الإنسان أولًا. فتشييد المدارس والجامعات لا يكفي إن لم تسبقه عملية ارتقاء بفكر الإنسان، وتشجيع ملكاته الفكرية والإبداعية. وإن تعريب التعليم العالي، والتخلي عن اللغات الأجنبية بصفتها أداة وحيدة للتدريس في التخصصات العلمية، والتوقف عن المناهج التلقينية التي عفا عليها الزمن، لهي بداية موفقة في طريق إصلاح شامل لتعليمنا.
إن أزمة الجامعات العربية ليست أزمة تمويل أو مبانٍ، بل هي أزمة فكر ومنهج في المقام الأول. الطريق نحو استعادة المجد الأكاديمي يبدأ من قرار شجاع بالاستثمار في العقل العربي، عبر تبني التفكير النقدي، وتعريب العلوم لتكون في متناول الجميع، وتغيير الهدف الأسمى للتعليم من الحصول على شهادة إلى بناء إنسان. حينها فقط، يمكننا أن ننشئ أجيالًا تقدّر العلم وترغب فيه، وتستطيع أن تعيد جامعاتنا إلى مكانتها اللائقة على خريطة العالم.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.