نشأ عبد ملقرط في بيئة فقيرة، كان يقطن في الحي المجانب لميناء قرطاج أين كان يشتغل حمالا للبضائع القرطاجية التي تصدر لكل موانئ العالم على متن السفن. تزوج امرأة من دمه وحلم بعائلة صغيرة وبعيش هادئ هني.
ولكن كان موت أطفالهما بعد الولادة ينغص حياتهما التي صارت أشبه بمأتم متواصل. لم تكن مشكلته فقط، بل مشكلة معظم أسر المدينة وخاصة منهم الفقراء.
المحظوظ من يتخطى صغاره شبح الموت المبكر، لمرض ما أو عاهة أو حادث، وكأن لعنة من الآلهة أصابت سكان المدينة، هكذا كانوا يؤمنون. كانت آمال عبد ملقرط أن يرى ابنا له يلعب في حجره يسمع ضحكته أو بكاءه، يكبر في أحضانه.
كانت أعصابه في هذا اليوم المنشود مشدودة، يدعو آلهته بسلامة وضع مولوده الجديد. "ربتي الحنونة أمنا تانيت، يا وجه العظيم بعل، يا بعل نذرتكما في السنة الفارطة في حرمكما أن ترزقاني ابنا سليما وانا عند وعدي لكما..". وهو في رجائه خرجت القابلة بوجه حزين، "كما في السنوات الماضيات، لم تفك لعنتك بعد
لم يتمكن صغيرك حتى من البكاء..."... لم يعرف عبد ملقرط أي نوع من الشعور كان ينتابه، أهو الحزن والألم، أهو الغضب من الآلهة التي لم ترحمه، أهو الاستسلام.. فقد استسلم فعلا للصمت العميق.. لم يتكلم طيلة ثلاثة أيام.. كل التحضيرات التي قام بها للفداء الجديد كانت في صمت..
في اليوم الثالث فجرا، خرج عبد ملقرط في أحسن ملابسه صحبة زوجته وكاهن من المعبد الكبير، ومعه المحرق والفحم، والعطر، والبخور، ووعاء فخاري، وخروف صغير أشار له الكاهن بفدائه، وفلذة كبده المتوفي.
دخلوا حرم العظيم بعل، ولم يكونوا الوحيدين، بل كانت عديد الأسر هناك تقدم طقوسها، فيما تفوح في المكان رائحة الحرق والبخور.. توجهوا إلى مكان اعتاد أجداده الذهاب إليه. أشعل الكاهن النار وهو يتمتم بابتهالات ويضع البخور بين الفينة والأخرى.
ثم أشار للزوجين بوضع رضيعهما في النار المقدسة.. بكل الألم، والدموع والبكاء، رغم أنها لم تكن المرة الاولى، وضعا الطفل في النار، "يا أمنا تانيت اقبلي منا ابننا واجعليه في ملكوتك مع جملة أبنائك، يا امنا تانيت عوضينا بصغير حي يرزق، يا بعل العظيم ارفع غضبك عنا واقبل منا هذا الذبح ".
قام الكاهن بعد الدعاء بذبح الخروف ووضعه في النار.. مرت ساعات من الصمت الحزين والزوجان يراقبان النار التي التهمت الرضيع والقربان.. لم يبق سوى رماد وبعض العظام المتفحمة، تم وضعها في وعاء فخاري تم غلقه بعجين طيني.
حفرت حفرة تم فيها وضع الوعاء، وبعد ردمه أقبل خادم من الحرم يجر نصبا حجريا تم اعداده في الأيام الفارطة، نحت عليه بطلب من الزوجان علامة الربة وملكوتها المقدس. وضع النصب في موضع الرفات، وتليت أدعية وأماني سرية.. ورجع الزوجان إلى حياتهما بأمل استجابة دعائهم..
في نفس المكان تقريبا وبعد آلاف السنين، وقف متاحبين لم يكتب بعد وصالهما، بنفس الأماني والقلوب المجروحة المفعمة بالمشاعر التي تعبق في المكان لعهود طويلة، تقاسما نفس العهد بالوفاء والحب. خلد عهدهما في التراب، بين النصب القديمة، بلا قرابين ولا نار ولا أبخرة، وإنما، بخط محفور في أرواحهما للأبد.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.