التَّرسُّل هو أدب المراسلات، أو فن كتابة الرسائل. يقول ابن وهب الكاتب (المتوفى في القرن الرابع الهجري): "التَّرسُّل من: ترسَّلتُ - أترسَّلُ - ترسُّلًا، وأنا مُترَسِّلٌ، كما يُقال: توقَّفتُ بهم - أتوقَّفُ - توقُّفًا، وأنا مُتوقِّفٌ؛ ولا يُقال إلا فيمن تكرَّر فعله في الرسائل.
والاسم: الرسالة، أو راسل - يُراسِلُ - مُراسلةً، وهو مُراسِل؛ إذا كان هو ومن يُراسِله قد اشتركا في المراسلة. وأصل الاشتقاق أنه كلام يُراسَل به من بعيد.
إنَّ التَّرسُّل في النثر العربي القديم فن أدبي، أو تشكيل لغوي جمالي، يهدف إلى تحقيق نوع من الاتصال الكتابي بين المُرسِل والمُرسَل إليه؛ لتبليغ رسالة ما، تهمُّ الطرفين.
وتُقسَّم الرسائل في التراث العربي إلى رسائل ديوانية، وإخوانية (أو شخصية)، وأدبية. والرسائل الديوانية؛ نسبة إلى ديوان الرسائل، وتُعرَف بالرسائل السلطانية، أو الإنشائية، أو الرسمية.
ويُعدُّ العصر العباسي العصر الذهبي للكتابة عامة، ولأدب التَّرسُّل خاصة، وقد عني به القدماء عناية فائقة، فألَّفوا فيه كُتبًا ورسائل، وعقدوا له فصولًا، تعني بفضائل هذه الصناعة ووظائفها وأغراضها وغاياتها وأعرافها وتقاليدها.
وقد عرف العرب التَّرسُّل السياسي منذ صدر الإسلام حتى إنَّ القلقشندي رأى أن ديوان الرسائل نشأ منذ عصر الرسول صلى الله عليه وسلم. فيقول في صبح الأعشى: "واعلم أن هذا الديوان أول ديوان وُضِع في الإسلام، وذلك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يُكاتِب أمراءه وأصحاب سراياه من الصحابة رضوان الله عليهم ويُكاتِبونه".
وأنَّ الثابت أنَّ ديوان الرسائل بصورته المُنظَّمة قد نشأ في خلافة معاوية، وكان من أهم الدواوين التي تطوَّرت سريعًا، مع امتداد مساحة الخلافة الإسلامية، واتساع رقعتها.
أما في العصر العباسي الأول فقد أدَّت الرسائل دورًا بارزًا في تصوير الصراع السياسي الناشب، ومواكبة الأحداث، على الصعيدين الداخلي والخارجي؛ وازدهرت كتابة الرسائل السياسية ازدهارًا كبيرًا. وكان لذلك النصيب الأول في نهضة التَّرسُّل عامة، والسياسي خاصة.
ومن أبرز تلك الأحداث، التي رافقتها مئات الرسائل، وكانت دافعًا من دوافع كتابتها: الثورة العباسية في البدء، ثم خروج عبد الله بن علي عم المنصور عليه، وأمر أبي مسلم الخراساني، وثورة محمد (النفس الزكية) وأخيه إبراهيم، والخلاف على ولاية العهد، والفتنة الكبرى بين الأمين والمأمون، والثورات والحركات التي اشتعل أوارها في ذلك العصر.
وقد وصل إلينا من رسائل ذلك العصر عدد غفير؛ إذ إنَّ مصادر التراث احتفت بالرسائل الرسمية خاصة، فروَت الكثير منها؛ لارتباطها بالأحداث السياسية وبالحروب والفتوحات واحتياج الرواة والإخباريين والمؤرخين إلى تدوينها.
إنَّ الرسائل السياسية تُمثل مادة من مواد التاريخ الإسلامي، وأنَّ كثيرًا من الحوادث التي تسردها بعض الرسائل هي محاكاة للواقع، وليست الواقع عينه؛ إذ للدعاية السياسية دورها في توظيف الأحداث وتوكيد سلطة الحاكم.
وإنَّ للرسائل قيمة تاريخية عظيمة؛ لصلتها بواقع مجتمعها وموضوعات الحياة فيه، وما كانت الدولة تمور به من أحداث جسام، كالصراع على الحكم والسلطان.
وقد كان لهؤلاء الكُتَّاب اليد الطولى في ازدهار أدب التَّرسُّل؛ إذ كانوا في الذروة من البلاغة والبيان، ومنهم يحيى البرمكي، وولده جعفر، وعمارة بن حمزة، ومحمد بن الليث... إلخ.
موضوعات أدب المراسلات
عرضت الرسائل السياسية في ذلك العصر لكثير من القضايا والشؤون المهمة على صعيد الدولة الإسلامية، ويمكن تصنيف هذه الرسائل بحسب موضوعاتها، مع مراعاة تسلسلها التاريخي على أزمنة الخلفاء، وأنَّ هذه الموضوعات يمكن أن تنطوي على موضوعات فرعية.
ومن أهم موضوعات الرسائل السياسية هي:
1- الدعوة العباسية والصراع مع الأمويين
دارت هذه الرسائل بين مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين وولاته، ولا سيما نصر بن سيار الذي ما فَتِئ يطلعه على حقيقة الدعوة العباسية، ويطلب منه المدد، كما دارت بين إبراهيم الإمام ودعاة الثورة أنفسهم.
وتتسم هذه الرسائل بالإيجاز والتكثيف، وبيان الغرض على نحو مباشر، نظرًا لظروف كتابتها، وما يحوط أغلبها من سرية وحذر وريبة.
كتب أبو العباس إلى أخيه المنصور يأمره بقتله، وألحَّ عليه في ذلك، وأبو جعفر يُراجعه، فكتب السفَّاح: "والله لتقتلنه، أو لأرسلنَّ إليه من يُخرجه من حجرتك، ثم يتولى قتله." فقتل ابن هبيرة، ولم تنفعه العهود، وقد كانت حجة السفَّاح في قتله هي ميل يزيد إلى آل علي ومراسلتهم، إلا أنَّ المظنون أنه فعل ذلك في أثناء حصاره، قبل أن يمنحه العباسيون الأمان وليس بعده، وإلا ما تردد المنصور في قتله لحظة واحدة.
الصراع السياسي الداخلي
وتُعدُّ من أغزر ما وصل إلينا من الرسائل السياسية، وقد تجلَّى الصراع السياسي الداخلي في هذا العصر بين العباسيين والقوى الآتية:
- قادة الثورة ودعاتها، كأبي مسلم الخراساني.
- آل علي وشيعتهم.
- الخوارج وأصحاب الثورات والفتن.
وقد تركت لنا هذه المنازعات رسائل عدّة، منها -حسب تسلسلها التاريخي- ما تبادله المنصور وأبو مسلم الخراساني، حينما أراد أن يفتك به، بعد أن استقر به المقام.
ومن أهم الرسائل السياسية في عهد المنصور تلك التي تبادلها مع محمد بن عبد الله؛ إذ انقسم حزب الهاشميين إلى بني العباس وآل علي بعد أن قامت الدولة العباسية؛ فقد رأى هؤلاء أنَّ العباسيين "اغتصبوا الأمر منهم، وابتزوه ابتزازًا دونهم، وهم الأولى؛ لسابقتهم، وقديم بلائهم، وسالف جهادهم، وأن الشيعة التي ناصرت، وأقامت ملك العباسيين شيعتهم".
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.