أدباء المهجر.. «جبران خليل جبران» و«إيليا أبو ماضي» نموذجًا

اعتادَ أدباءُ المهجرِ الكتابةَ ملتهمينَ كلَّ مخزونِ لغتِهم، وحصادِ مفرداتِهم، قبلَ أن تحلَّ بهم عواصفُ الهجرة، وترمي بهم الريحُ إلى بلادِ الغربِ بعيدًا عن بذورِ عربيَّتِهم ونباتِ عطائِهم، كتبوا مستعرضينَ كلَّ ما عرفوهُ عن العربيَّةِ، متمسِّكين بكلِّ الفواصلِ التي تبقَّت بين البلادِ التي عرفوها ونشأوا بين ترابِها، وبين البلادِ التي غادروا إليها بحثًا عن مستقبلٍ أفضلَ.

جبران خليل جبران

لعلَّ أبرزَ شعراء المهجر هو جبران خليل جبران، وقد كتبَ جبرانُ خليلُ جبرانَ كثيرًا عن بلادِه وترابِها، وتمسَّكَ بعربيَّتِه ولونِ حروفِها القمحيَّةِ في الغربةِ، بل واستطاعَ دمجَ أفقٍ آخرَ للتفكيرِ والتعبيرِ من الغربِ، لينتجَ أسلوبًا جديدًا في الكتابةِ بين رمزيَّةِ الأدبِ الغربيِّ وروحانيَّاتِ الأدبِ العربيِّ، وكانت الغربةُ مادةً أدبيَّةً دسمةً للكتابةِ، فكتبَ جبرانُ كثيرًا عن الغربةِ والحنينِ، ليؤلِّفَ بعدها كتابَه "الوطن والمنفى"، واصفًا كلَّ ما عاشهُ من نيرانِ الشوقِ لبلدِه لبنان، وهذا ما ظهرَ بوضوحٍ في أعمالِه مثلَ "الأجنحة المتكسرة" و"المواكب".

جبران خليل جبران

كان جبرانُ خليلُ جبرانَ يرى أنَّ الغربةَ ليست مجردَ ابتعادٍ عن الوطنِ، بل هي حالةٌ ذهنيَّةٌ تتجاوزُ المكانَ لتصبحَ مسألةً داخليَّةً تتعلَّقُ بالبحثِ عن الذاتِ والهويَّةِ، فلم يجدْ نفسَه منغمسًا في كلِّ تفاصيلِ بلادِه وشعبِه ولغتِه، لغتِه التي عشقَها بلا سَأمٍ مهما كتبَ ودرسَ عنها وتغنَّى بكلِّ تفاصيلِها وهو بعيدٌ عنها، بين هواءِ بلادِه الذي لم يعانقْه سنواتٍ، وترابِه الذي لم يلمسْه منذ فجرٍ لم يعدْ يتذكَّرْ ملامحَ النهارِ بعده، وبين بلادِ الغربةِ التي استطاعتِ الاندفاعَ بالتعبيرِ في قلمِه، ولامستْ فيه جزءًا من قلبِه.

ولكنَّهُ وبطريقةٍ ما يكتبُ عن شيءٍ لا يشبِهُه، هذه الازدواجيَّةُ جعلتْه في حالةٍ دائمةٍ من البحثِ عن المعنى، فشعرَ في كثيرٍ من الأحيانِ بأنَّه ينتمي إلى كلتا الثقافتينِ، لكنَّه في الوقتِ نفسِه لا ينتمي تمامًا إلى أيٍّ منهما.

إيليا أبو ماضي

لم يصارعِ إيليا أبو ماضي شاعر الجمال والفلسفة ما صارعه جبرانُ خليلُ جبرانَ في الغربةِ، فكان شاعرًا يصارعُ حنينَه لبلادِه فقط، ويكتبُ رسائلَ عشقٍ وغزلٍ علنيَّةً لقريتِه البسيطةِ في لبنانَ، ولعلَّ أشهرَها في قصيدةِ "الطلاسمِ" الشهيرةِ. وعلى الرغمِ من أنَّ أبا ماضي عاش بعيدًا عن لبنان، لكنَّ الحنينَ إلى الوطنِ ظلَّ رفيقَه الدائمَ، كان شعرُه مليئًا بالحنينِ إلى البساطةِ والطبيعةِ، فصوَّر الوطنَ كملاذٍ روحيٍّ لا يمكنُ للإنسانِ الابتعادَ عنه تمامًا، حتى لو جسديًا.

عانى أبو ماضي من غربةٍ فلسفيَّةٍ ووجوديَّةٍ. كان يبحثُ عن معنى الحياةِ في عالمٍ يبدو غامضًا وغيرَ مفهومٍ، بل بالكادِ يعرفُ ماذا يفعلُ في دنياهِ، وتجدُ في شعرِه تساؤلاتٍ عن الوجودِ والهدفِ من الحياةِ، وكأنَّه يحاولُ فهمَ دورِه ومكانتِه في هذا العالمِ الجديدِ الذي انتقلَ إليه.

أسَّس إيليا أبو ماضي مجلةَ "السميرِ" في الغربةِ، وكانت وسيلةَ التعزيةِ الأرقَّ والأفضلَ التي استطاع بها التواصلَ مع العالمِ العربيِّ الأدبيِّ، ونقلَ أفكارَه وشعرَه بها، واستطاع نقلَ تجاربِه في الغربةِ وشوقِه لبلادِه وأملِه في العودةِ.

على الرغمِ من صعوبةِ الهجرةِ، فإنَّ التمسُّكَ بالأدبِ العربيِّ والهويَّةِ العربيَّةِ هو الخيارُ الأثقلُ على كفوفِ النفسِ البشريَّةِ المتعطِّشةِ للشعورِ بالانتماءِ. فالأمرُ أشبهُ بأنْ تبقى معلَّقًا على سطحِ البيتِ؛ لن تملكَ بيتًا كاملًا، ولن تلمسَ الغيومَ وتطيرَ مع العصافيرِ. معلَّقًا بين منتصفِ الأشياءِ، ستختارُ الأملَ والتفاؤلَ كما فعل إيليا أبو ماضي، وتعبِّرُ عن الشوقِ بقصائدَ لا تكتفي من معانيها، أم تتساءلُ عن مكانِك وتصارعُ حقيقتَك كجبرانَ خليلِ جبرانَ.

جلُّ ما أعرفُه أنَّ وراءَ كلِّ هذه الصراعاتِ الداخليَّةِ التي عاشوها تركوا إرثًا أدبيًّا لبلادِهم يصدحُ صداهُ إلى يومِنا هذا، ينشدُه كلُّ مغتربٍ متيَّمٍ بعربيَّتِه.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة