تخيل أنك دخلت إلى منشور لأحد الأصدقاء، كتب رأيًا لا يعجبك، فاندفعت تكتب تعليقًا حادًا مملوءًا بالانفعال، ثم تضغط "إرسال". ولكن فجأة، تجد أن صاحب المنشور يرد عليك بهدوء، ويقول لك: "شكرًا يا محترم!" تشعر للحظة أنك ربما تسرعت، فتدخل التعليقات، فتجد أشخاصًا يتفقون معك، وآخرين يعارضونك، ونقاشًا بدأ يتحول إلى معركة كلامية. تبدأ في مراجعة تعليقك... هل كنت قاسيًا؟ هل كان بإمكانك التعبير عن رأيك دون أن تهاجمه بقسوة هكذا؟
الآن، نبدأ بالسؤال الجوهري: كيف نتصفح مواقع التواصل ونتفاعل بوعي؟ ما الأخلاقيات التي ينبغي أن نلتزم بها في عالم تحكمه السرعة والانفعال والآراء المتضاربة؟
القسم الأول: لماذا نتحول إلى كائنات انفعالية مؤذية على الإنترنت؟
لو جلست مع صديقك في مقهى وتحدث عن رأي يخالفك، هل تصرخ في وجهه؟ بلا شك (لا). ولكن على مواقع التواصل، الأمر مختلف، لماذا؟
1- الإحساس بالحصانة
خلف الشاشة، لا نرى ردود الأفعال المباشرة، ولا نرى الشخص وهو ينزعج أو يتوتر أو يفكر قبل أن يرد، ما يجعلنا نكتب دون فلترة.
2- سرعة التفاعل
ضغطة زر واحدة تضع رأيك في العلن، حتى قبل أن تفكر فيه بعمق.
3- التشجيع السلبي
بعض التعليقات السلبية تحصل على إعجابات ومشاركات، ما يغري بعضنا بمزيد من الهجوم لجذب الانتباه.
القسم الثاني: أخلاقيات التعليق والتفاعل الواعي
1- هل هذا التعليق ضروري؟
قبل أن تكتب، اسأل نفسك: هل سيضيف تعليقي شيئًا مفيدًا؟ هل هو بناء أم مجرد هجوم؟ هل أندم على كتابته لاحقًا؟
قاعدة التوقف والتفكير قبل التعليق
قبل أن تضغط "إرسال"، جرب أن تتحكم في انفعالك: العد حتى العشرة – نعم، تبدو نصيحة كلاسيكية لكنها فعالة. أعد قراءة التعليق بعد عشر ثوانٍ، وستجد أنك قد تريد تعديله أو حتى حذفه!
اسأل نفسك: هل أرد بالأسلوب نفسه لو كنت في لقاء وجهًا لوجه؟ إذا كانت الإجابة "لا"، فالأفضل إعادة صياغته بأسلوب أكثر هدوءًا.
تخيل أن تعليقك سيظهر في نشرة الأخبار غدًا باسمك الحقيقي، هل يبدو ذكيًّا أم محرجًا؟
خذ "بريك" قبل الرد! اخرج، اشرب كوبًا من الماء، ابتعد قليلًا.. ستتفاجأ بمدى اختلاف نظرتك بعد دقائق قليلة. استخدم "مسودة التعليق". اكتب ما تشعر به في مكان آخر، ثم انتظر قليلًا قبل إرساله، في الغالب ستقرر تعديله أو حذفه نهائيًّا!
2- "النقد مش لازم يكون طوبة"
الاختلاف في الرأي طبيعي، لكن كيف نعبر عنه؟
- "أنت غبي" = خطأ فادح
- "أنا أختلف معك لهذا السبب..." = نقاش عقلاني
استخدم النقد البنَّاء بدلًا من السخرية أو الاستهزاء.
الله سبحانه وتعالى لم يترك أمر الكلمة بلا حساب، بل جعل لها وزنًا، فقال في كتابه: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (ق: 18).
3- لا تكن وقودًا للفتنة
مواقع التواصل الاجتماعي مملوءة بالنقاشات الساخنة، لكن هل يستحق الأمر أن تدخل في معركة إلكترونية تنتهي بحظر الطرف الآخر؟ أحيانًا، التجاهل هو الخيار الأكثر حكمة.
متى يكون التجاهل هو الحل الذكي؟
عندما يكون الشخص الذي يهاجمك معروفًا بإثارة الجدل لمجرد الجدل، لا تعطه فرصة للاستمتاع بردودك! إذا كان التعليق مملوءًا بالإهانات الشخصية وليس نقاشًا حقيقيًّا. عندما يكون الجدال سيدخل في دائرة لا نهائية من الردود التي لن تغير شيئًا. حينما يكون تجاهلك لهذا الشخص سيؤثر فيه أكثر من ردك؛ لأن الصمت أحيانًا أقوى من الكلمات.
لكن، متى يكون الرد ضروريًّا؟
- إذا كان لديك تصحيح مهم لمعلومة خاطئة يمكن أن تضر الآخرين.
- عندما يكون النقاش مفيدًا وتوجد فرصة حقيقية لتبادل وجهات النظر.
- إذا كان الرد سيحمي شخصًا آخر من التنمر أو الظلم.
4- "لا تكن بطل الكيبورد"
يوجد فرق بين الجرأة والعدوانية/ لا تكن شجاعًا فقط لأنك مختبئ خلف شاشة/ لو كنت في موقف وجهًا لوجه، هل تقول الكلام نفسه بالأسلوب نفسه؟
ما تكتبه على الإنترنت قد يُحاسبك عليه القانون!
كثيرون يعتقدون أن مواقع التواصل "مساحة حرة"، لكن الحقيقة أن القوانين تلاحق التعليقات المسيئة، وقد تُعد بعض التعليقات:
- قذفًا وتشهيرًا في حال اتهام شخص بشيء غير مثبت.
- تحريضًا على العنف أو الكراهية إذا تضمنت دعوات للضرر.
- تنمرًا إلكترونيًّا إذا كانت تهدف إلى إهانة شخص أو التقليل من شأنه.
هل تعلم؟
في بعض الدول، مجرد تعليق مهين يمكن أن يؤدي إلى غرامة مالية أو حتى السجن؛ لذا، قبل أن تكتب أي تعليق، اسأل نفسك: هل يستحق الأمر المخاطرة؟
- "في الإمارات: المادة 41 من قانون مكافحة التمييز تُحكم بالسجن 5 سنوات على الإهانات الإلكترونية".
- "في مصر: المادة 302 مكرر من قانون العقوبات تُجرِّم التنمر الإلكتروني بالحبس سنة أو غرامة 100 ألف جنيه".
ولا يخفى عليكم الواقعة الشهيرة التي قاضى فيها اللاعب الشهير راشفورد طالبًا جامعيًّا من محافظة الشرقية، لأنه علَّق له تعليقًا مسيئًا على أحد منشوراته.
5- تحقق قبل أن تنشر أو تعلِّق
كم مرة نشرنا أخبارًا مغلوطة، ثم اكتشفنا لاحقًا أنها كانت مجرد إشاعات؟ لا تكن جزءًا من سلسلة التضليل، تحقق من المصدر قبل أن تشارك.
6- راعِ شعور الناس كما تريد أن يراعوا شعورك
هل فكرت في وقع كلماتك المهينة على نفسية من توجه له تلك الكلمات؟ هل تعي أنك بكلمة لا تلقي لها بالًا، قد تدفعه إلى الانتحار؟ حتى لو كان مخطئًا، فهذه ليست الطريقة المثلى في التقويم. عامل الناس كما تحب أن يعاملوك، فطريقة السبّ والشتم هذه عادةً ما تأتي بنتائج عكسية وثمار طالحة.
آثار التنمر الإلكتروني
سجلت منظمة "Cyberbullying Research Center" ارتفاعًا في حالات الانتحار بين الشباب بسبب التعليقات الجارحة والتنمر الإلكتروني على مواقع التواصل. ولكم في "التيكتوكر" السعودية نورة الشهري التي انتحرت بسبب التنمر خير مثال.
المتنمر لن يفلت من عقاب الله، بل إن الكلمة قد تكون سببًا في هلاك صاحبها دنيويًّا وأخرويًّا، كما قال النبي ﷺ: «إِنَّ العبدَ ليتكلَّمُ بالكلمةِ مِن رِضْوَانِ اللهِ لا يُلقِي لَهَا بَالًا، يَرْفَعُهُ اللهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ العبدَ ليتكلَّمُ بالكلمةِ مِن سَخَطِ اللهِ لا يُلقِي لَهَا بَالًا، يَهوي بِهَا في جهنَّمَ» (البخاري ومسلم). تأمل.. مجرد كلمة، قد تكون سبابًا أو شتيمة أو سخرية، تجعل صاحبها يهوي في النار سبعين خريفًا!
7- لا تكن مجرد رقم في القطيع
توقف لحظة، وانظر حولك.. هل تلاحظ كيف تتحول بعض المنشورات إلى ساحات إعدام إلكتروني؟
شخص ما يرتكب خطأً، أو يُساء فهمه، أو حتى ينشر رأيًا غير شائع، فتنهال عليه التعليقات الغاضبة، وكأن الجميع تحولوا إلى قضاة وجلادين في آن واحد. هل كل هؤلاء المهاجمين فكروا فعلًا؟ أم أنهم فقط انضموا إلى الموجة لأن الهجوم هو الاتجاه السائد؟
تذكر: أنت لست مجرد رقم في طوفان الغضب الرقمي
قبل أن تنضم إلى هجوم جماعي، اسأل نفسك: ماذا لو كنت أنت مكانه؟ ألن تتمنى أن يمنحك أحدهم فرصة لشرح موقفك؟
كلنا نخطئ، وكلنا لنا سقطات، ولو فُتشت حياتنا كما نفتش في أخطاء الآخرين لما نجا أحد.
لا تجعل حماسة اللحظة تدفعك لكتابة تعليق ستندم عليه لاحقًا، التفاعل بوعي يعني أن تقاوم اندفاع القطيع، وتفكر بعقلك لا بعاطفتك اللحظية.
"وحسب دراسة لـ "إدراك العربية"، 63% من الشباب العربي تعرّضوا لتنمر إلكتروني خلال 2023".
علميًّا: هل يمكن أن تموت بسبب كلمات الآخرين؟
نعم، وهذا ليس كلامًا عاطفيًّا، بل حقيقة طبية، توجد متلازمة معروفة في الطب النفسي تُسمى "متلازمة القلب المكسور" (Takotsubo Cardiomyopathy)، إذ تؤدي الصدمات العاطفية إلى ضعف مفاجئ في عضلة القلب، ما قد يسبب الوفاة!
دراسة في "New England Journal of Medicine" وجدت أن الأشخاص الذين تعرضوا لإهانات لفظية قاسية أوقاتًا طويلة، زادت لديهم احتمالية الإصابة بأمراض القلب وارتفاع ضغط الدم بنسبة 32% مقارنة بغيرهم.
إحدى الحالات الشهيرة كانت لرجل مسنّ في اليابان، توفي بسكتة قلبية بعد أن تعرض لإهانة قاسية من أحد أفراد أسرته، على الرغم من أنه كان يتمتع بصحة جيدة، الكلمة لم تكن مجرد صوت، بل كانت رصاصة قلبية قاتلة!
الخلاصة: هل تضغط "إرسال" قبل أن تفكر؟
بعد كل ما قرأته، هل ما زلت تظن أن تعليقك الجارح هو مجرد "كلام عابر"؟
تذكر: كل كلمة تكتبها ستبقى.. إما في صحيفتك عند الله، وإما في قلب شخص قد يتأذى بسببها مدى الحياة. اختر كلماتك كما تختار سلاحك؛ لأن بعض الأسلحة تقتل ببطء.. لكنها تقتل!
القسم الثالث: القصة التي لم تحدث ولكنها تحدث كل يوم
سلمى فتاة ذكية، تحب النقاشات الفكرية، دخلت على منشور يناقش قضية جدلية، وكتبت تعليقًا رصينًا ومنطقيًّا، لكن أحدهم رد عليها بسخرية: "أنتِ لا تفهمين شيئًا." سلمى شعرت بالغضب، وقررت أن ترد بنفس الأسلوب، لكنها توقفت لحظة. بدلاً من الانفعال، ردت بهدوء: "أحترم وجهة نظرك، لكن لدي تساؤل: هل لديك مصدر يدعم كلامك؟". المفاجأة؟ الشخص الذي سخر منها هدأ، وتحول النقاش إلى حوار حقيقي. سلمى لم تخسر أعصابها، لم تندم لاحقًا على تعليقها، وكسبت احترام الآخرين.
القسم الرابع: التفاعل بوعي = راحة نفسية
أنت لستَ مضطرًا للرد على كل شيء، ولستَ مضطرًا للدخول في كل معركة. اختر نقاشاتك بحكمة، وتذكر أن وقتك ومزاجك أغلى من الدخول في جدالات بلا جدوى.
الخاتمة: كن النسخة الأفضل من نفسك.. حتى وأنت تكتب تعليقًا
مواقع التواصل تظهر شخصياتنا، فهل تريد أن تظهر شخصًا حكيمًا ومتزنًا، أم مجرد شخص يبحث عن الجدل؟
الإنترنت يشبه المرآة: يظهر شخصيتك، أخلاقك، وسلوكك. فقبل أن تعلِّق، تذكر أن كلماتك قد تغيِّر مزاج شخص ليوم كامل، أو ربما لحياته كلها. لا تكن سببًا في إحباط أحد، ولا تكن وقودًا للفتنة، بل كن ذلك الشخص الذي يجعل النقاشات أكثر نضجًا واحترامًا.
قبل أن تضغط "إرسال"، اسأل نفسك: هل هذا التعليق يفصح عن شخصيتي الحقيقية؟ لأن الحقيقة هي: الإنترنت لا ينسى.. ولكنك تستطيع أن تختار كيف يريد الآخرون أن يتذكروك.
المصادر
- كتاب "الذكاء العاطفي في التواصل الرقمي" – دانيال جولمان
- دراسة عن سلوكيات مستخدمي الإنترنت، منشورة في مجلة "Journal of Cyberpsychology"
- تقرير صادر عن مركز "Pew Research Center" حول تأثير مواقع التواصل على الحوار العام
👍👍👍
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.