قضى الفيلسوف الألماني "فريدريك نيتشه" صاحب مذهب العدمية، آخر سنوات حياته في عزلة مريرة، نهبًا للمرض، وظل سجينًا في عالم الجنون طيلة الأحد عشر عامًا المتبقية من حياته.
لقد أدانه معاصروه باسم العقلية، واستغلوا ذلك الفكر الذي كان من غزارة الإحساس، لدرجة استحالت معها كل محاولات تفسيره. لكن نيتشه في الواقع كان يعبر عن تناقضات الإنسان، ويرفض كل عقيدة وثوقية. فأسلوبه في الشعر وكتاباته وأقواله المأثورة تنطوي على عمق رهيب، والحكمة التالية توضح لنا اتجاهاته الفلسفية التي لا يمكن قصرها على نهج واحد، إذ إنها محاولة مستميتة لتأكيد التناقض الجوهري في الأشياء.
اقرأ أيضًا: تحرير العقل من قبضة العاطفة ج1
التناسخ العقلي في الإنسان
يقول الكاتب زرادشت في كتابه عن "فريدريك نيتشه":
أنه ارتكن إلى ثلاث حالات لتناسخ العقل: "كيف يصبح العقل جملًا، وكيف يصبح الجمل أسدًا، ثم كيف يتحول الأسد أخيرًا إلى طفل".
هناك عدد من الأثقال التي ينوء بها العقل القوي الصبور الذي يحركه الاحترام: إن حيويته وقوته تطالبان بأشد الأحمال ثقلًا.
فهو «يبرك» كما يفعل الجمل، ويطلب أن يُحسن تحميله. والعقل الشجاع يتقبل كل هذه الأحمال الثقيلة، مثله كمثل الجمل الذي لا يكاد يشعر بإتمام تحميله، حتى يسرع متجهًا نحو الصحراء. إنه يسرع نحو صحرائه، ولكن في قلب الصحراء الموحشة، يحدث التحول الثاني، فيصبح العقل أسدًا.
إنه يرغب في أن يغزو الحرية، وفي أن يصبح هو السيد على صحرائه الخاصة. وهنا يأخذ في البحث عن آخر سادته. إنه يريد أن يصبح عدوًا لهذا السيد ولمولاه الأخير، وفي سبيل النصر، نجده يريد أن يصارع التنين العظيم.
ما هذا التنين العظيم الذي لا يود العقل أن يسميه لا بالمولى ولا بالسيد؟
إن التنين العظيم هو «يجب عليك»، ولكن عقل الأسد يقول «أنا أريد». ولكن الأسد لا يريد أن يخلق قيمًا جديدة، بل يريد أن يكون حرًّا لخلق جديد. وهذا هو ما تستطيعه إمكانيات الأسد: التحرر وفرض «لا» المقدسة على «الواجب». تلك، أيها الإخوة، هي المهمة التي يواجهها الأسد.
ولكن خبروني، أيها الإخوة، ما الذي يستطيع الطفل أن يفعله، مما لم يقدر عليه الأسد؟ ولماذا يتحتم على الأسد المتوحش أن يتحول إلى طفل؟
إن الطفل هو البراءة، إنه بداية جديدة ولعبة، هو عجلة تدور حول نفسها، حركة أولى، هو «نعم» المقدسة.
كلمة أجل، إن لعبة الخلق، أيها الإخوة، تستوجب كلمة «نعم» المقدسة، إنها الإرادة التي يتطلع إليها العقل حاليًا، إنها العالم الخاص الذي يرغب في امتلاكه من افتقد العالم».
هكذا كان يتكلم زرادشت.
حاول نيتشه في استماتة أن يقول للإنسان كيف يتوصل إلى موقف بريء: كيف يتخلص من المظاهر الخداعة للميتافيزيقا (ما وراء الطبيعة)، ويكشف الستار عن كذب الفراغ الذي يكتنف القيم المستعارة، ويفجر العقل المنطقي الذي يفسر الأشياء تفسيرًا خاطئًا، بتجاهله للأضداد. فإذا ما تخلص من كل هذه الأثقال، استطاع الإنسان أن يكتشف أن «الذات لا هي حقيقة، ولا هي وهمية، ولكنها حركة تعبيرية لا نهائية».
اقرأ أيضًا: دور العقل والعاطفة في تحقيق التوازن في حياة الإنسان
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.