قال موظف المطار وقد وجده شارداً: أنت.. أنت ألن تسافر؟
تقدّم مبرزاً جواز سفره، وأكمل شروده وقد حلقت عيناه في فضاء صالة المطار..
همس مع ذاته: قدر خطاه لا تخطئ و"بشرى" تنضج، زمن يصيب في خبطه العشوائيّ حتّى وهو يلزمني بالغربة بعيداً عن حبيبتي، قدر يهون كرمى عيون بشرى..
ربيع لا بدّ أن يمرّ، فالقلب أعلن وجوده قراراً حتميّاً لا يقبل سوى لغة الانتحار في مداد قصيدة لا تصلح إلاّ لبشرى، ونسائم تصيب البشر الحنظل في لذتها والعسل في علقمها، وهي إذ تصيبني فإنّ بشرى تستحق التضحية بكل شيء...
-الموظف من جديد: جوازك أيّها الأستاذ الشارد!
ينتقل إلى المكتب الثاني، يسلّم جوازه ويمعن في ثريّا فخمة تزين الصّالة، يتساءل: أيّة فتاة لا تستعذب البحث عن شاب يدغدع أوتار فؤادها؟
يتخيل "بشرى" متعلقة بالثريّا وتنطق وهي تسبل جفونها سكرانة لتساؤلاته وتجيبه: أيّ شاب لا ينتظر حوّاء آفاقه تملؤه ضوضاء وأحلاما؟ تابع سفرك وحبّنا خالد يا حبيبي..
-الموظف: أنت يا أستاذ، لماذا تبطء هكذا؟! هيّا إلى الطائرة.
الآن ومن مقعده بإمكانه الاستمرار محلّقا في أفكاره دون فواصل، أرخى رأسه وبدأ قلبه يتمتم:
بشرى يا ابنة الكون الوحيدة، بحر يرقد في عينيك، وزرقة تتراقص حول قرص شمس المغيب، وأنا خاضع لطبائع نورس صخري لا يغادر عشّه الصّخري إلاّ ليستمتع مع صهيل موج لا يهدأ..
في عمق خشوعي أولد نورساً طمّاعاً وأقبّل الزّبد لنعمة ثمينة، يا ابنة الكون الوحيدة، ثلج يهطل في خدّيك، بياض يتراكم على منبع البياض، يا ابنة ضيعتي نضج الرّعد فيكِ، فتوزّعين حديث البراري، وتتمزّق الحواكير مشتاقة لغزل جسدين منهمكين يخجلان التعري تحت نور قمر أيلول..
بشرى يا ابنة البراكين الكامنة، تصرخين فلا يتحرك فوك، وتثور الدّعوة من بلاد الورد المنثورة في مساحات جسدك، ويتعتق إيقاع الروح بين الشهيق والزفير في ثغرك العذريّ، أنتِ أبهى ما تحبلُ فيكِ شرايين الحلم، سأعود يا بشرى..
نطق بهمس خفيف لا إراديّ: سأعود..
التفت إليه المسافر في المقعد الملاصق وقال مبتسماً: ستعود إن شاء الله، المهم أن نصل بخير.. لا بأس لا بأس ستصل بخير وتعود بخير..
تمرّ بضع سنوات أثقل من حوافر الزمن على الجبين، كان يشتعل حنينه مع كل حرف يتواصل فيه مع بشرى، لكنّها منذ أيام فقط انقطعت أخبارها عنه، كل ما تلقّاه أنّ بشرى مريضة وأن والدها يلزمها بعدم التواصل معه خشية الإرهاق..
يعجّل في موعد عودته، وها هو في المطار يلحّ على الموظف بتسريع إجراءات سفره..
-موظف المطار: مهلاً أيّها الأستاذ ستصل إلى بلدك آمنًا، وموعد إقلاع الطائرة لن يتأخر ولن يتقدّم..
أغمض عينيه في قاعة المطار ونطق بصمت: سأضمّ بشرى خليّة خليّة، ألصقها بصدري دهوراً، وأبني قصر حبنّا في ضيعتي الفقيرة..
في مقعد الطائرة قال له المسافر بجواره: من أنت؟
يجيب: متلهّف وقد خشيت أن يغرّد جناحي بعيداً عن أفياء تربيّت فيها، فتشت عن صبيّة تساوي وزنها ذهباً في عصر التنك، ونفضت غبار الأشياء عن جسدي وكحلّت عيوني بغبار الطلع من بساتين تزداد نضرة وحيوية، ليس لي سوى ضيعة بشرى ضيعتي كل لا أضيع..
ابتسم له المسافر: إنّك متيم!
يتابع: بحثت فوجدت الصبية التي أكتب فيها مداد الدّم، وحظيت بملهمة تغذي أوراقي وتجعل الروح قصيدة، وتجعل لحياتي المعنى والهدف..
-أنت شاعر؟!
أنا عاشق..
-من "ليلاك " يابن الملوح؟!
إنّها بشرى الفتاة التي نزعت القشور عن الأوردة والخفقات، فقالت لي مرّة: خلقنا لبعضنا..، وأجبتها: حبنا صوفيّ السكرات.
-أأنت متصوف؟!
-أنا عاشق
المسافر محرّكا إبهامه فوق سبابته: ما ثمن العشق هذه الأيّام؟!
غربة سنوات وسنوات، وجهد لإشادة قصر حبّ، واللذّة في مغازلة القمر وغيمات السماء..
-أأنت حالم؟!
-أنا عاشق..
كانت رحلة طائرة العودة بحجم دهر من الفراق، وأثقلته المسافة بين المطار وضيعته وكأنّها سنين ضوئية تفصله عن صبية الحلم والزمان، ولكنه تلقّى الخبر الأقسى في حياته..
كانت ترتجف شفاه أمه وهي تلقي عليه الخبر كالصاعقة:
ثريّ دفع الملايين واشترى بشرى بأمواله، إنّه أثرى منك بكثير، والحمد لله أنّك لم تشاهد حماسة عائلتها وبشرى ذاتها في حفل زفافها، ما زالت مخلفات ورود الاحتفال مرمية حول بيت بشرى وفي شرفاتها للاستعراض فقط.. المال يعمل العجائب يا بني، بشرى اليوم في بلاد الغربة هانئة بأموال تغنيها عن حبّكَ، فلا تهتم.. من غدرت بك لا تستحقك ما دامت خانتك..
وتابع مع ذاته: ولا تستحق قصر الحبّ الذي حملت ثمنه وكنت سأبنيه كرمى لعينيها!
افتقد أيّ مقدرة على التجوّل في أزقة القرية وشويرعات حبه، ولم يعاين الأمكنة التي ولدت في رحمها قصّة حبه لبشرى..
وبعد أيام بدا مظهره قوياً، وتحدَّث مع أمه بصوت يرنّ كمن كسّر أصفاداً تقيد روحه، فقال: سأبني قصر الحب الذي جنيت ثمنه من بلاد المال والغربة، ولا قدرة لي على اختيار أنثى، فتّشي عن فتاة مناسبة لي من أيّ سوق بشرية، لقد حان الوقت لشراء زوجة، أريد أن أرسمها كليلى العامريّة، وأن تكون بوزن بشرى وبمثل خصرها فهذا ما أرضاه، وشرطي أن أشرف يوم الزفاف على وزنها في السوق المزدحم..
مضت أيام قليلة ثمّ بدأت طقوس زفاف غرائبية لم تحدث من قبل، فتجمهر النّاس في السوق بجوار بسطة ضخمة من البطيخ، بينما أمسك العريس بيد عروس مثقلة بالذهب، وأسندها وهي تصعد على "الميزان الضخم المخصص لقياس وزن بطيخ الجملة، ثمّ تحدث مع نفسه ملهوفاً: بالضبط يا "ليلاي" أنت المناسبة فهذا الوزن الذي أفضله..
أمسك بيدها وابتسم صاعداً في السيّارة الفخمة وهمس بأذن عروسه: سيكون أجمل شهر عسل معكِ..
انطلق جاعلاً الإطارات تزأر، بينما بائع "البطّيخ" يصفق مع الآخرين وينافس زغاريد الفرح بأعلى صوته وهو يصرخ:
أحمـــــــــــــــــــــــــــــــــر يا بطيخ.. عســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــل يا بطّيخ..
اقرأ أيضاً
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.