«أحلام مؤجلة».. قصة قصيرة

سعيد شاب بسيط للغاية، تقليدي إلى أبعد الحدود، لا تخلو روحه من حس الدعابة، صاحب وجه بشوش، يطمح أن يصبح أستاذًا جامعيًا ويؤسس عائلة كما فعل أقرانه.

كان يقول لأمه: حين أحصل على الوظيفة أول ما سأفعله هو إرسالك لأداء مناسك الحج لزيارة مقام حبيبنا المصطفى، ثم سأتزوج. تبتسم هي في وجهه، وكأن شعورها يخبرها أنه لن يحصل على وظيفة في الدولة، ولن يتزوج.

كافح وكله ثقة بتعيينه داخل الكلية التي درس بها ثلاث عشرة سنة متتابعة، بدءًا بالإجازة، مرورًا بالماستر، ونهاية بالدكتوراة، وتطوَّع أيضًا للتدريس بها سنتين متتاليتين دون حصوله على أي مقابل.

ناقش بحثه، وتخرج في الجامعة، ولكنه لم يحصل على الوظيفة التي كان يطمح إليها، بل ظل بلا عمل ثلاث سنوات متتابعة.

وبينما هو يتجول في شوارع المدينة التقى صدفة صديقه القديم عزيز، المحب لفعل الخير، فأخبره بظروفه، ليدله الأخير على إعلان خاص بتوظيف الأساتذة الجامعيين في دولة عربية، تردد قائلًا: أأعمل في الخليج؟

تعجَّب عزيز سائلًا: وما بها دول الخليج؟

رد سعيد: يقولون إنها لا تحفظ حقوق المهاجرين الوافدين عليها للعمل فيها.

عزيز: لا تقل هذا يا صاح؛ أنت رجل مثقف، وليس كل ما يُقال صحيح، وليست كل الدول كبعضها؛ يا صديقي توكَّل على الله، وانوِ الخير تجد الخير.

أقنعه عزيز بالتقديم على العمل، وهذا ما كان.

ودَّع أمه، وترك وطنه وراءه وهاجر ليدفع ضريبة تأخر التفكير في المستقبل.

حطت الطائرة في المطار الدولي، فاستقبله مسئول من الكلية بحفاوة وأوصله إلى مكان استقراره ليستريح.

تعرَّف على زميله الذي استقبله في البيت الذي يدرس في الكلية نفسها التي سيدرس فيها هو طيلة مدة عمله؛ قال وهو يبتسم: مرحبًا أنا سعيد من دولة المغرب.

يضحك زميله في الغرفة مصافحًا إياه: أهلًا وسهلًا، معك صابر، على رأي المغني حسين الجسمي: وأنا صابر وأنا صابر وأنا صابر...هذا حال الدنيا، فيها الفرح وفيها الحزن، انوِ الخير تجد الخير. أنا من مصر، سنسكن معًا في البيت نفسه، وعلى ما يبدو أننا سنتفق بنسبة مئة في المائة ما دمنا نحب رسم البسمة على شفاهنا.

وبدأت رحلته المهنية التي خاضها حبًا في تحقيق بعض أحلامه التي لم يستطع إليها سبيلًا بسبب عدم تفكيره في المستقبل وهو في ريعان شبابه.

ابن أمه الوحيد يتحدث معها عبر (واتساب) كل يوم، وساعة فساعة يجيز لنفسه الرد على مكالمات بعض أصدقائه المرئية؛ يسألونه كيف حالك؟

أحيانًا يشعر بتوتر فلا يجد ما يجيبهم به، ويصمت مبتسمًا في وجوههم لئلا يشعروا باشتياقه لهم ولبيته وخزانته المليئة بكتب العلماء الأولين؛ تلك التي شمَّ فيها عبق تاريخ حافل بالانتصارات للهوية العربية.

بعد مرور سنتين ظل فيهما معتزلًا العالم الخارجي؛ لكونه لا يجيد فن الاختلاط المجتمعي، انتهى عقد العمل الذي وقَّعه، صحيح أنه جمع مالًا كثيرًا، ولكنه لم يستطع الشعور بالراحة من كثرة الأسئلة التي تنزل عليه كالمطر في غياب زميله صابر وهو ممدد في غرفة من أربعة جدران وحيدًا كأنه لا يريد العودة إلى وطنه بسبب إخفاقه في الحصول على وظيفة في الدولة.

لطالما تبادر إلى ذهنه سؤالان: ما الذي سيقع غدًا؟ وكيف كان حالي سيكون لو كنت بقيت في وطني؟

في النهاية وجد في حسابه البنكي رصيدًا ماليًا لا بأس به، لم يصدق نفسه أنه في خلال سنتين جمع مالًا كثيرًا لم يكن ليجمعه لو كان بقي في وطنه.

دخل صابر فوجده يفكر بصوت مسموع، فضحك عندما سمعه يقول: لديَّ ما يكفي لتحقيق كل أحلامي، الآن سأعود إلى أمي.

قال له صابر: نعم يا صاح، إنك الآن تملك رصيدًا بنكيًا يؤهلك لتتزوج وتفتح دكانًا لبيع الكتب في وطنك، لم تعد محتاجًا للحصول على أية وظيفة في الدولة.

أجاب سعيد بكل ثقة: نعم معك حق، صحيح أنني لم أحصل على وظيفة في الدولة، ولكنني حصلت على المال الذي ربما لم أكن لأحصل عليه لو بقيت أنتظر الحصول على وظيفة في وطني.

الآن سأعود لأمي لنحج معًا، وسأتزوج وأؤسس عائلة، وأفتح محلًا لبيع الكتب العتيقة، سأعود لأحقق أحلامي المؤجلة.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

رائع جدا دمت مبدعة
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة
بقلم طارق السيد متولى
بقلم محمد احمد الهواري
بقلم محمد احمد الهواري
بقلم محمد حلمى عطيه