في أحد أيام نيسان من عام 1927م أتى أحدهم إلى هذه الدنيا، لا أحد كان يعلم ما الذي تخبّئه الدنيا لهذا الغلام.
ومع مرور الأيام كبر ذاك الطفل في قرية ريفية حيث الأمان والهدوء، دخل الابتدائية، وتفوق فيها، ومن ثم الإعدادية وبعدها الثانوية وصولاً إلى الجامعة.
في هذه الفترات من حياته أحداث كثيرة، منها ما هو مضحك، ومنها ما هو مبكٍ، أيام جميلة وأخرى قبيحة، سنوات عجاف وسنوات حِسان، محبّ لأهله، متعلق بهم كثيراً، أيضاً كان محبوباً من الجميع، وكما يقولون المحبة من الله..
في بقعة أخرى من هذا الكوكب أتى أحدهم ليزيّن هذه الدنيا بإقباله عليها في شهر تموز 1932م.
كانت فتاة حسنة جميلة، كبرت، وكلما ازداد عمرها سنة ازداد حسنها وجمالها حتى أصبحت أميرة بكل معنى الكلمة، تأخذ من الورود عبيرها ونعومتها، ومن الطير أوتار صوتها الجميل، ومن الغيم عطاؤها وحنانها، تأخذ القلب إن نظرت عيناً بالعين، فعيناها صافية كصفاء الخلجان وبريق اللؤلؤ..
شاءت الأقدار وبعد مرور الأعوام أن تلتقي تلك الفتاة بذاك الشاب صدفة...
في بداية الأمر كان أشبه بالمزاح، بدأت الحكاية وكأنها حلم أو خيال، ولكنها لم تكن كذلك، كانت حقيقة، وطرق الحب باب قلبيهما...
يقول حفيدهما كما قص عليه جده:
-أمين (الجد): لا يسعني إن أشرح لك ماذا كان يجول في داخلي في تلك الليلة، لا أستطيع وصف كمية الحب والغرام التي خلقت في داخلي..
حاولتُ مراراً وتكراراً أن أوصل لها تلك الفكرة التي يعجز عن وصفها أو شرحها أعظم أبيات الشعر تعبيراً عن الحب من شعراء الغرام منذ الجاهلية إلى الآن، والتي يعجز عن الحديث عنها أعظم روايات الحب والهيام والليالي الطويلة والغزل والتغزل، ما كان مني إلا أن قلت لها دون سيطرة على نفسي: أحبكِ..
لا أعلم إن كانت هذه الكلمة قد أشعرتها ببعض ما أشعر به حيال ذاك الشعور الذي تملكني، وكما يقال: "سكنني أو سكنه جني"، ولكن أنا سكنني ملاك..
بدأتُ حينها بفتح النوافذ في قلبي وتهويته وتغيير ما كان به، فقد أشرقت به الشمس مجدداً بعد غيابها لعدة أعوام، كانت فيها الروح قد نسيت أنها على قيد جسدي، وكان الغبار قد ملأ ما في قلبي من أرجاء وأنحاء..
شعرتُ حينها إن الله أرسلها ليعوضني عن كل ما حدث سابقاً من مآسٍ وحزنٍ وليالٍ كئيبة ودموع.
نظرتُ إليها حينها وكأنها هبة من الله أو هدية السماء، جاءت لترمم ما في قلبي من جراح وكدمات وأصواتٍ وصرخاتٍ مخنوقة بين الصمامات.
لم أستطع النوم في تلك الليلة وأنا أفكر بها، وأدعو الله إن يكتب لي معها خيراً، وأن يكمل ما بدأه من سعادة وأمان إلى وقت الفجر، تضرعت له كثيراً، ودعوته بكل ما أملك من طاقة.
يُقال: إن وقت الفجر هو وقت الدعوات المستجابة، هكذا كانت تقول لي أمي حفظها الله..
كنتُ أنتظر الصباح كي أركض إلى هاتفي لأرى رسالة منها:
-صباح الخير..
-الآن أصبح صباحي خيراً ويومي سعيداً...
تتراقص روحي وتنتعش ثناياها وينبض القلب نبضة غريبة لم أشعر بها سابقاً، لعلها نبضة الحب..
-أمير (الحفيد): ولكن هل للحب نبضات خاصة يا جدي؟
-الجد: نعم، فنبضة الحب تعطيك حياة أكثر بألف مرة من باقي النبضات من القلب؛ لأنها تبعث في الروح شعور الأمان والحنان وتجعلك سعيداً، سعيداً لدرجة أنك تشعر بأن روحك خفيفة تريد إن تطير إليه، إلى من تحب،
تعانقه، ثم تعود حاملة معها عطره النادر، وعبير أنفاسه التي ستجعلك تغوص في بحر الحنين.
يُكمل قائلاً ....
-كانت مميزة جداً في كلامها وجمال روحها، وضحكتها، وأحاديثها..
حتى في حزنها وجزعها كانت مميزة، تذبل كالوردة دون أن تطلب الماء...
-أمير: كيف كانت أيامكم الأولى يا جدي، أعني كيف بدأتم؟
-الجد: في أيامنا الأولى كان هناك شيء من الحنين يولد بداخل كلانا... لعله القليل من الشغف أو كما يقال: إنها بدايات الحب.
-أمير: ولكن يا جدي.. هل للحب بدايات؟ وإن كان هناك بدايات فلا بد إن يكون هناك نهايات أيضاً؟
الجد: نعم يا صغيري، للحب بدايات نصنعها نحن، نتمسك بها ونتعلق كثيراً، جميلة جداً وهادئة ومليئة بالشغف والسهر والضحك والسعادة...
أما النهايات يا صغيري فيصنعها القدر، وإنني أؤمن إن القدر لن يكسر أحدًا، ولن يظلم أحدًا، بل يكتب النهايات الطيبة للطيبين، ويجعل لهم السعادة كالورود مزروعة في دروبهم أينما اتجهوا.
-أمير: كيف نجد الحب الصادق يا جدي؟
لعلني أُكثر من الاسئلة، ولكن الفضول يغلبني.
-الجد: ههه.. لا يا صغيري.. أنا لستُ متعباً من أسئلتك، إنها تنعش روحي وتعطر أنفاسي، يبحث الإنسان عادة عن الحب، والطمأنينة، والأمان، والسلام الداخلي لروحه وقلبه، ولكن قد ينجح وقد يخطئ..
إلى إن يتدخل القدر، ويجمعك بمن هو لك، وأنت له، كُتبتما لبعض، وربط الله على قلبيكما، فتشعر وكأنك تعرفه منذ أعوام، تشعر معه بالأمان، هنا يكون القدر قد قدم لك هدية السماء المبعوثة من الله إليك، فتكون أميرتك الغالية هي هدية السماء لك، وتكون أنت هدية السماء لها.
-أمير: ولكن هل يرسل الله الهدايا لجميع الناس يا جدي أم ماذا؟
-الجد: نعم يا صغيري، يرسل الهدايا للجميع، كن واثقاً يا بني من أن الله يريدنا سعداء دائماً، ولكن لا تنس إن تشكره على هداياه، أوليس بالشكر تدوم النعم؟
-أمير: حسناً يا جدي، كيف شكرت الله؟
-الجد: كنت في كل يوم جمعة أشعل لها البخور آملاً من الله إن يحميها لي، ويكتب لنا الخير في كل شيء، وأن تبقى بصحة وعافية وبسعادة، كنت أحضر لها البخور، أنا أعلم أنه لديها البخور في البيت، وإن لم يكن عندها بإمكانها إن تحضر البخور بنفسها، ولكنني كنت أطمئن أكثر عندما أعطيها القليل من البخور، وتعطيني هي القليل أيضاً، فيشعل كل منا للآخر البخور ليبق حبنا محفوظاً برعاية الله.
-أمير: جدي..
-الجد: نعم يا صغيري..
-أمير: لا، لا شيء..
-الجد: قل يا صغيري، لا تصمت هكذا، ماذا يدور في رأسك؟
-أمير: هل سأجد الحب الصادق يا جدي؟
-الجد: كل منا سيجد الحب الصادق والشريك المثالي في حياته يا صغيري، ولكن لا بد لك أن تصبر حتى تلتقي به..
كانت تدعو جدتك الله بألا يحرمها مني، كانت تشعر بأن غيابي حرمان، وهل هناك أعظم من أن ينظر إليك أحدهم على أنك نعمة وغيابك هو حرمان؟
-أمير: أحسدك يا جدي، وأتمنى أن يجمعني الله بحبيبة كجدتي...
-الجد: هههه، أيها الشقي، سأعترف لك بسر، لقد اكتشفتُ منذ زمن بعيد، منذ لقائنا الأول، وحديثنا الأول، وسهرتنا الأولى، وأول مرة أسمع فيها صوتها، وأول فجر بيننا أن جدتك ليس لها مثيل، لا تشبه أحداً، ولا أحد يشبهها..
هي فريدة، ونادرة، إنها كالدانا والتي هي أندر أنواع اللؤلؤ، بل هي أعظم من ذلك بكثير..
-أمير: أحبك كثيراً يا جدي، وأحب جدتي ايضاً.
-الجد: وأنا أحبك أيضاً يا صغيري، ولكن أحب جدتك أكثر، ههههه، لا تزعل، إنني أمزح، إنني لا أمزح يا صغيري..
لم ولن أحب أحداً كما أحببت جدتك، ولكن سوف أسايرك كيلا تزعل، فإنك ما زلت صغيراً لتعرف معنى أن يلتقي الإنسان بروحه.
-أمير: حسناً يا جدي. (يبتسم سعيداً)
-الجد: صحيح، لم أخبرك عن قصة الرابعة فجراً.
-أمير: تبدو جميلة، أخبرني يا جدي، إنني متشوق لأسمع.
-الجد: الرابعة فجراً يا بني، كل الطمأنينة، كنا نسهر سويّاً حتى الفجر، وعند الرابعة فجراً تنهمر أرواحنا بشلالات من الحنان والطمأنينة وكأنها الراحة السرمدية للروح، فيشعر كلانا بالأمان، ونتعاهد بألا يتخلى أحدنا عن الآخر، وأن نبقى معاً مهما كانت الظروف، ومهما قست علينا الحياة.
-أمير: ما أروع هذا يا جدي! ولكن هل حدث وأن تخاصمتما يا جدي؟
-الجد: اسمع يا صغيري، يجب أن تعرف أنه لا يوجد اثنان في هذه الدنيا ولا يتخاصمان، حتى في بعض الأحيان قد يتخاصم المرء مع نفسه لاقترافه خطأً أو ذنباً، فيؤنب نفسه عليه..
نعم تخاصمنا، ولكن في كل مرة نتخاصم فيها ما هي إلا ساعات، ونعود كما كنا، كانت الرابعة فجراً تجمعنا دائماً، واعلم يا بنيّ أنه في الحب يعتذر الأشد حبّاً دائماً..
كنتُ أعتبرها طفلتي المدللة، وأعتبر أنني المخطئ في كل مرة نتخاصم فيها، وأعتذر لها، كنّا قد أخذنا عهداً بيننا ألا ينام أحدنا والآخر على زعل، أذكر ذات ليلة لم تُجب على اتصالاتي، لم أنم في تلك الليلة، كانت مظلمة وباردة جداً...
-أمير: محظوظة هي جدتي (يضحك)..
-الجد: لماذا يا صغيري؟
-أمير: لأنها وجدت كل هذه الحنان والدفء والاهتمام والأمان في شخص واحد...
-الجد: إممم، صحيح، ولكنني أيضاً محظوظ بها.
-أمير: أنا لا أشك في ذلك، فجدتي تفيض بالحنان والعطاء.
-الجد: ماذا رأيت من الحنان يا صغيري؟
لقد كانت روحي تسمو عالياً حين تهمس لي: حبيبي، أحبك جداً.
لقد كان لهمساتها بيت صغير خاص في قلبي ينتظرها في كل ليلة لتهمس له ويعود للحياة من جديد.
-أمير: إلى هذه الدرجة تحبها يا جدي؟
-الجد: لقد كانت تحتاج ألف قلب ليحبها، فعيناها تحتاج قلب، وضحكتها قلب، وشعرها الحريري قلب، ولو أحببتها في الثانية ألف عام لن أكتفي..
-أمير: ما أعظم الحب وما أروعه يا جدي!
-الجد: ولكن هذا الحب لا بد أن نحافظ عليه حين نجده يا بني، يجب أن نعرف كيف نحافظ على من نحب، ونعطيه ما يستحق من الحب والحنان والطمأنينة، ونكون معه في كل لحظاته، في تعبه وراحته، فرحه وحزنه، في أصعب الأوقات وفي أروعها...
أن نكون عوناً له في كل شيء وإلا فسنخسره ونخسر أنفسنا معه، وكم هو بشع شعور الخسارة.
-أمير: كنت قد سمعتك تقول لجدتي: مرجوحة بعمر الستين، فماذا يعني ذلك؟
-الجد: لقد كنت دائماً أعاملها وكأنها طفلتي المدللة حتى لو تقدمت في السن، فهي ما زالت طفلتي المدللة حتى لو بلغنا من العمر ستين عاماً..
أعطيتها وعداً أن نذهب إلى مدينة الملاهي والألعاب، وأن نلعب على المراجيح؛ لذلك أقول لها دائماً: مرجوحة بعمر الستين...
-أمير: لا بد أنك تمزح يا جدي (يضحك)..
-الجد: لا يا بنيّ، أنا لا أمزح، عندما تحب ستدرك أهمية أن تبقي من تحب سعيداً كالأطفال، ضاحكاً مُطمئِناً لأنك هنا، أن تجعله الأول في حياتك والأهم من أي شيء، أن تحاول ألا يشغلك عنه أحد أو عمل أو أي شيء آخر، أن تراه كالوردة الجورية..
ترويه حبّاً وحناناً من قلبك حتى يكبر ويزهر، الحب أسمى ما في الوجود، وأنقى ما في القلوب، الحب أمان وطمأنينة وراحة وسعادة، الحب أعظم مما نتخيل..
وفي الحب يجمع الله الأرواح المتشابهة في قلب واحد وجسد واحد حتى تشعر وكأنك ومن تحب روح واحدة لا يفرقه أو يبعده عنك شيء، ويوكل الأمر للقدر ليلعب لعبته الرائعة في اجتماعكما معاً، هي فرصة واحدة يعطيها لك الله والقدر، فلا تضيعها.
-أمير: أشعر بالنعاس يا جدي.
الجد: حسناً، يجب أن تنام يا صغيري، تعال هنا (يحتضنه مبتسماً)
-أمير: تصبح على خير يا جدي.
-الجد: تصبح على ما تتمنى يا صغيري..
تأتي الجدة بهدوء ...
-الجدة: هل نام؟
لا بد أنك قصصتَ عليه بعضاً من قصصك الممتعة؛ لأنه يرقد بسرور مبتسماً.
-الجد: نعم، كنت أقص عليه قصتنا الجميلة، لقد أحبها كثيراً، وقال إنه يحبني ويحبك أيضاً، وأظنه أحب الحياة بعد هذه القصة. (يضحك الجد)
-الجدة: حسناً يا عزيزي، حان موعد دوائك، تفضل. (تعطيه حبة الدواء وكأساً من الماء).
-الجد: شكراً يا غاليتي.
-الجدة: فيها الشفاء يا عزيزي، لنخلد إلى النوم، هيا...
-الجد: تصبحين على ما تتمنين...
-الجدة: تصبح على خير يا كل الخير.
في اليوم التالي ...
يصحو الحفيد ليجد جدته وجده مستيقظين ويشربا المتة صباحاً كعادتهما...
-أمير: صباح الخير..
-الجد: صباح الخير أيها الشقي...
-الجدة: صباح الخير يا صغيري، تعال هنا، فقد أعددت لك بعض الفطائر لتتناولها، أعرفك تحبها..
-أمير: شكراً يا جدتي...
-الجدة: على الرحب يا بني.. صحة
يتبع ......
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.