أسباب تدوين القانون في بلاد الرافدين
لما كانت مسألة تدوين القانون ليست حكرًا على بلاد الرافدين لا تخص منطقة دون الأخرى في بلاد الشرق الأدنى، خاصة بعد اكتشاف الكتابة التي اكتشفت أساسًا في بلاد الرافدين ضمن آثار حضارة الوركاء في مدينة أور(9)، فقد كانت هناك أسباب لتدوين القانون في تاريخ البشرية، منها:
- تعدد القضاة: يُعد الملك القاضي الأول بالبلاد فهو من يشرف على تفسير القانون وتطبيقه من أجل العدالة، غير أنه يحتاج إلى من يعينه وينوب عليه في النظر في القضايا والفصل فيها، ولهذا لا بد من وجود قواعد قانونية موحدة يرجع إليها هؤلاء القضاة في عملهم، ومن أجل ذلك دونت القوانين، ومثال على ذلك قوانين حمورابي، فقد لجأ الأخير إلى تدوين القانون وإصدار مدونته المشهورة بنية توحيد القانون بعد أن اندمجت دويلات بلاد الرافدين في دولة واحدة (10).
- توحيد القواعد القانونية وتعميم تطبيقها: في المجتمعات المستقرة تندمج عناصر متباينة من السكان، كل منها لها عاداتها وتقاليدها وأعرافها؛ لذا يضع المشرع ما يراه مناسبًا من الأعراف والتقاليد ليعطيها قوة بالقانون، فيحقق بذلك تناسقًا بين السكان حسب الأحكام الخاضعة للعرف السائد(11).
- حفظ القوانين والقواعد القانونية من الضياع أو التحريف التي قد تتعرض لها عبر التاريخ، فأفضل وسيلة لتجنب ذلك هو تدوينها(12).
أولاً : بدايات نشأة وتطور القوانين والمدونات القانونية في بلاد الرافدين
إن أقدم القوانين المكتوبة التي توصل إليها علماء الآثار هي قوانين بلاد الرافدين، ولذلك اعتبر المجتمع في بلاد الرافدين أول مجتمع أنساني عاش في ظل القانون، وترك بعض معالم ذلك القانون(1).
يراد بالقانون في وادي الرافدين هو مجموعة القواعد والنظم القانونية التي سادت في وادي الرافدين منذ فجر التاريخ حتى الفتح الإسلامي للعراق، وتُستمد المعلومات عن القانون في وادي الرافدين من الألواح التي كُتبت بالخط المسماري، ثم بالحروف الأبجدية بعد أن تم اختراع الفينيقيين لها، وهي لا تزال مستعملة حتى ألان كما نستخلصها من النقوش الموجودة على الآثار الموجودة ببلاد الرافدين(2).
وعلى الرغم من إن المدونات القانونية في وادي الرافدين كانت قد قطعت شوطاً بعيداً في بناء الحضارة الإنسانية، والتنظيم الاجتماعي، فان النصوص المسمارية ظلت تحتل المرتبة الأولى بين تلك المصادر، وما زالت تعد الأساس في أي دراسة تاريخية قانونية(3).
ومع هذه الكثرة في عدد الوثائق التي وصلت عن القانون في وادي الرافدين فان المعلومات لا تزال ناقصة، ولعل سبب ذلك هو عدم قيام علماء الآثار بنشر كل ما اكتشفوه وترجمته، ليكون في متناول الدراسات العلمية، فضلاً على وجود كتابات لم يتم الكشف عنها إلى هذا اليوم، كما إن هذه الوثائق كانت خالية من الدراسات النظرية، والقانونية التي تبين المبادئ العامة للقانون(4).
نهضت المدونات القانونية بدور مهم في حياة سكان بلاد الرافدين، فقد دلت على ما وصلوا إليه من تقدم في ميدان الحضارة الفكرية، والقانونية، ذلك إن ظهور القوانين، والأنظمة الاجتماعية في الحضارة يعد من أوثق المعايير، والمقاييس للحكم على مدى تقدم تلك الحضارة في سلم التطور الحضاري والتقدم العمراني(5).
فالتاريخ لا ينسى فضل ملوك وحكام بلاد الرافدين على الثقافة القانونية الذي تجلى بتدوين القوانين، فكان الملوك لا يصدرون القوانين التي تستهدف إلى وضع الملوك للمسائل القانونية المختلفة التي تتمخض عنها التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكانت سلطة إصدار القوانين مقصورة على الملوك وحدهم، فأوامرهم كانت هي القانون غير إن تلك السلطة كانت مقيدة بقواعد دينية وعرفية، تلزمهم باتباع ما تأمرهم به العدالة، وكانت توجد حكمة تشير إلى إن الملك إذا لم ينشر العدالة، فان رعيته ستثور عليه، ومملكته ستتهاوى، ومصيره سينقلب(6).
لذلك فقد ورد في كثير من المدونات القانونية، ما يفيد تقيد الملوك بالعدالة، فمثلاً تضمنت مقدمة، وخاتمة شريعة حمورابي إشارة صريحة على التزام الملك حمورابي بالعدالة، سواء في المجال الاقتصادي أو الاجتماعي (7).
وقد أكد بعض المختصين إن القوانين في وادي الرافدين لم تكن إلا مجرد قرارات معظم هذه القوانين، وتجدر الإشارة إلى إن الحديث عن القوانين وسيلة من وسائل تحقيق العدالة يصرف ذهن السامع عادة إلى شريعة حمورابي، غير إن هذه الشريعة ليست بأقدم قانون عرفه المجتمع العراقي القديم، فقد وصلت إلينا قوانين أقدم عهدًا منها، فشريعة حمورابي وإن تضمنت قواعد قانونية عدة، فإنها تمثل مرحلة متقدمة من مراحل التطور القانوني التي بنيت على ما سبقها من مراحل(8).
لقد سبق سكان بلاد الرافدين غيرهم من الشعوب القديمة مثل اليونانيون والرومان في سن تشريعاتهم القانونية، فظهر أقدم قوانين في بلاد الرافدين وهو قانون أور-نامو، ثم قانون اشنونا ولبت عشتار وحمورابي، ثم القوانين الأشورية القديمة والوسيطة (9)، لذلك قسم الباحثين الأرشيف القانوني في بلاد الرافدين إلى قسمين سواء تلك التي دونت باللغة السومرية أو السامية (10)، وفيما يأتي عرض لأهم القوانين التي أصدرها الملوك في وادي الرافدين طبقًا لتاريخ صدورها لا تبعًا لتاريخ العثور عليها أو الكشف عنها.
- المدونات القانونية: ويقصد بها التشريعات القديمة مثل تشريع أور- نامو 2112-2004ق.م وتشريع لبث عشتار نحو 1934-1924ق.م، وتشريع أشنونا 2000-1721ق.م، وتشريع حمورابي 1792-1750ق.م(11).
- الوثائق القانونية المتعلقة بالمعاملات اليومية: وهي مجموعة كبيرة من المحررات احتوتها عشرات الآلاف من الوثائق المسمارية المتنوعة التي شملت كل من الوثائق الملكية المكتوبة الصادرة عن الملك، وقد شملت الأوامر لمعالجة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والحلول(12).
وخلاصة القول إن سكان بلاد الرافدين قد كانت لديهم فكرة عن القانون فكانت المدونات القانونية القديمة متداخلة في مادتها وموضوعها(13).
ثانيًا: قوانين بلاد الرافدين السابقة لقانون حمورابي وأثرها على الجانبين الاقتصادي والاجتماعي
1- قانون أوركاجينا (Urukagina) وأثره في الجانبين الاقتصادي والاجتماعي:
في عهد أوركاجينا عُثر على قرابة 1200 وثيقة إدارية تحت أنقاض معبد الإله نيني جيرسو(14)، وعلى 300 لوح طيني يتضمن أحكام صادرة ترجع إلى عهد سلالة أور الثالثة، 2112-2004ق.م، ترجع للملك شولجي، وأواخر عهد إيبي سين الأول (15).
أصدر الملك السومري أوركاجينا حاكم لجاش الذي اعتلى العرش نحو 2365ق.م، وهي من أقدم النصوص ذات الطابع التشريعي، وعلى الرغم من أنها لا ترقى إلى طور التشريع؛ فإنها تحمل في طياتها الروح التنظيمية للإصلاح الاقتصادي والاجتماعي في سبيل تحقيق مبدأ الحرية في حدود القانون ومبدأ العدل (16)، فتُشير النصوص القانونية المكتشفة في الألواح الطينية، أن أوركاجينا كان حاكمًا صالحًا، وأنه وضع هذه النصوص وأعاد بها العدل والحرية إلى المواطنيين(17).
لقد تضمنت وثيقة أوركاجينا نوعين من الإجراءات الإصلاحية وهي: إجراءات فورية استثنائية، إجراءات ذات طابع قانوني(18).
وقد كان لقانون أوركاجينا تأثير على الجانب الاجتماعي، فقد أصدر مراسيم تحرم استغلال الطبقة الغنية للطبقة الفقيرة، واستغلال الكهنة لجميع الناس، فخفضت رسوم دفن الموتى إلى خمس ما كانت عليه، وحرم على الكهنة وكبار الموظفين أن يقتسموا فيما بينهم ما يقربه الناس قربانًا للآلهة من ماشية وأموال(19).
2- قانون أور- نامو(Ur- Nammu) وأثره في الجانبين الاقتصادي والاجتماعي:
أصدر هذا القانون الملك أور-نامو مؤسس أسرة أور الثالثة الذي حكم 2050ق.م بعد أن تمكنت أسرته من إخضاع معظم بلاد الرافدين لسلطتها(20)، ويعد عصره عصر الرخاء وعُرف بعصر أور الذهبي لما شهدته من رخاء اقتصادي وتفوق وتقدم في جميع المجالات(21).
سبق هذا القانون شريعة حمورابي بثلاثة قرون، وينسب القانون كما تشير إلى ذلك مقدمته إلى الملك (أور نمو) (22). ويتصف قانون أور نمو بأهميته الخاصة وفقًا لدراسة تاريخ القانون لا لكونه من أقدم القوانين المكتشفة حتى الآن، بل لأنه يمثل القوانين السومرية القانونية المختلفة(23).
ويتضمن هذا القانون على مقدمة، وعدة مواد تتكون من (31) مادة قسم منها مفقود لا يعطي أية فكرة قانونية عنها، والقسم الأخر استطاع علماء المسماريات قراءتها، وترجمتها من نصوص القانون الأصلي، ونورد فيما يأتي أهم ما جاء في القانون(24).
احتوت المقدمة على نظرية التفويض الإلهي للسلطة، فيرى (أور- نامو) مشرع هذا القانون في مقدمته إن الإلهة هي التي فوضت إليه السلطات، فيذكر أور نمو "عندما خلق العالم، وبعد أن تقرر مصير بلاد (سومر) ومصير مدينة (أور) عين الإلهان (آن) و(إنليل) إله القمر (ننار) ملكًا على مدينة أور، ثم اختار هذا الإله بدوره (أور نمو) ليحكم بلاد سومر ومدينة (أور) بصفته نائبًا عنه يمثله في الأرض"(25)، أما المواد القانونية المتعلقة بالعقوبات فقد استندت إلى مبدأ التعويض دون مبدأ القصاص(26)، ثم إنها تضمنت الغرض من إصداره، والغاية منه إقامة العدل في البلاد وإصلاح أحوال الرعية(27).
وُجدت نسخ عدة من قانون أور- نامو في بلاد الرافدين، وقد طُبق هذا القانون، وأُخذ به في المدن التي خضعت لسيطرة وحكم أور-نامو، ويعتقد أن مجموعة مواد قانون الملك أور-نامو كانت أكثر من ثلاثين مادة، يحتوي هذا القانون في شكله الكامل على مقدمة ونصوص المواد وخاتمة(28). وقد جاءت مواد شريعته التاسعة والعشرون مادة جاءت تأكيدًا وتطبيقًا لتلك المواد التي جاءت في المقدمة(29).
أما بخصوص مدى تأثير قانون أور-نامو على الجانب الاجتماعي فقد عالج بعض المسائل المتعلقة بالزواج وشهادة الشهود، والاعتداءات البدنية، والأخذ بمبدأ التعويض عن الضرر إلا في حالات النادرة، خلافًا لما جاء لاحقًا في قانون حمورابي(30)، فجاء في المادة (15) من قانون (أور نمو) بأنه "إذا قطع رجل أخر، عليه إن يدفع غرامة عشرة ثقيلات من الفضة"، ثم إنه لم يهمل عدد من الإصلاحات الأخلاقية والاجتماعية فقضى على الغشاشين والمرتشين(31).
وعلى صعيد أثر هذا القانون على الجانب الاقتصادي كان قانون أور-نامو أول القوانين التي اهتمت بالنواحي الاقتصادية، وذلك من أجل إحلال حالة الاستقرار الاقتصادي، وإنهاء حالة الفوضى الاقتصادية، فلم يهمل الفساد الذي كان يحدث بواسطة التلاعب في الموازين والمكاييل وجعلها ثابتة، كذلك لم يسمح للأغنياء بالسيطرة على أموال الأيتام والأرامل(32).
وعلى كل من الملاحظ أن قانون أور-نامو لم يعالج كثيرًا من القضايا الاقتصادية والاجتماعية، فلا نجد أي ذكر للأمور التجارية، في حين تشير رقم طينية عدة عُثر عليها إلى ازدهار التجارة في دولة أور الثالثة، في حين تشير نصوصه إلى أنه أغفل قضايا الجيش وتحديد الأسعار أو الأجور(33).
3- تشريع أشنونا (Eshnunna) وأثره في الجانبين الاقتصادي والاجتماعي:
أشنونا دويلة من دول المدينة، تقع في الشمال الشرقي من مدينة بغداد الحالية، وازدهرت هذه الدولة في الفترة التالية لسقوط أسرة أور الثالثة(34).
ينسب هذا القانون إلى أحد ملوك أشنونا واسمه "بلالاما" (35)، حيث صدر في نحو عام 1930ق.م وهو متقدم على قانون حمورابي بما يقرب من القرنين من الزمن، عُثر عليه مدونًا على لوحين من الطين منقوشًا باللغة البابلية، فاللوح الأول الذي عُثر عليه سنة 1945م، وجد في حالة سيئة، في حين عُثر على اللوح الثاني سنة1948م، وكانت من أجل نواحي تعليمية وإملائية، تحتوي المدونة على مقدمة ومتن وخاتمة، تتألف من 60 مادة عولجت فيها مجموعة من القضايا المختلفة في جميع النواحي (36).
دُوِّن القانون باللغة البابلية، وهذا أن اللغة البابلية أصبحت تستخدم في المعاملات الرسمية أكثر من استخدام اللغة السومرية، فأغلب الشرائع إما دونت باللغة السومرية أو اللغة السامية البابلية(37).
يُعد قانون أشنونا من أقدم القوانين التي اعترفت بالنظام الطبقي في بلاد الرافدين، فقد ظهرت ثلاث طبقات وهي: طبقة الأحرار، طبقة الموشكينوم، وطبقة الأرقاء(38)، وعالجت مدونة أشنونا القضايا الاجتماعية التي تخص الأسرة ووضعية العبيد (39)، وجمع بين مبدأي القصاص والدية، وأقر مبدأ الشفعة بين الأخوة في شراء إرث أخيهم إذا أراد بيعه، فمن باع دارًا كان له الحق قي شرائها من بعد ولو باعها مشتريها(40).
ثم إن قانون أشنونا عالج بعض الأمور الاجتماعية كقضايا الأحوال الشخصية والجرائم التي منها جريمة السرقة، فوضع عقوبات لتلك الجرائم التي يقترفها بعض البشر بحق الآخرين، فتراوحت العقوبة بين القصاص والتعويض المادي، فكان عقاب القاتل القتل ويكون العقاب لمن يتسبب بإلحاق الأذى بغير شرط عدم وفاته هو التعويض(41).
اهتم قانون اشنونا بالنواحي الاقتصادية وهذا إن دل على شيء أنما يدل على أن الدولة فعلًا كانت مزدهرة وبها استقرار سياسي، فقد عالجت المواد من (1-11) بعض المسائل الاقتصادية وتنظيمها، فقد حددت بعض أسعار المواد وجعلت من الشيقل الواحد من الفضة كوحدة أساسية للمبادلات، كما سمح بالتعامل بالمقايضة بدفع الشعير كمادة غذائية أساسية معادلة للفضة، كما توخى المشرع الحذر في ضبط الأوزان والأسعار محاربة للمتلاعبين بالأسعار والمحتكرين للسلع أمام وطأة الأزمات الاقتصادية التي تحدث بصورة متكررة نتيجة لكثرة الغزوات والفيضانات، وهي أحداث يترتب عليها حدوث زعزعة في السوق المحلي، وعلى هذا ارتفاع الأسعار وإرهاق الطبقة الفقيرة المؤلفة من الرقيق والمشكينوم(42).
4- قانون لبت عشتار وأثره في الجانبين الاقتصادي والاجتماعي:
دون هذا القانون في 1934-1923ق.م، وقد جاء في مقدمته تأكيداً على توطيد العدالة في سومر وأكاد ومنحهم حريتهم، ولبت عشتار هو خامس ملوك سلالة إيسن وحكم 1934-1924ق.م(43).
يتكون هذا القانون من مقدمة وخاتمة وعدد من النصوص القانونية التي لم يسلم منها سوى ثمانية وثلاثين نصًا بعضها كامل، وبعض آخر ناقص(44)، والمقدمة سلكت ما كان متعارفًا عليه آنذاك في الشكلية التي تكتب بها مقدمة الشرائع(45). وذلك بتمجيد الآلهة السومرية، والملك لبت عشتار الذي اتخذ لنفسه لقب ملك سومر وأكد، أما ما جاء به من تشريع هو من إلهام الإله أوتو إله الشمس والإله إنليل(46)، وعلى الرغم من أنه لم يبق منه سوى 37 مادة(47).
إن قانون لبت عشتار جاء ليكمل الإصلاحات الاجتماعية التي منها ما جاء في المادة الثامنة والعشرين، فيُذكر أنه إذا فقدت زوجة رجل نظرها أو أصيبت بالشلل، فلا يجوز إخراجها من البيت أي بيت زوجها، وإذا تزوج بزوجة ثانية كان عليها خدمة الزوجة الأولى ومدواتها(48).
واهتم قانون لبت عشتار بالرقيق ونظر في مصلحتهم، كما أنه اهتم بالأحكام الخاصة بالمواريث وهي ميزة تميز بها قانون لبت عشتار(49).
اهتم قانون لبت عشتار بالجوانب الاقتصادية خاصة الزراعة بما تحتويه من أمور مختلفة وعالج حالات السرقة التي يتعرض لها أصحاب الحقول والبساتين، كما أنه لم يهمل الأضرار التي تلحقها الحيوانات بالأشخاص والممتلكات (50)، كذلك عالجت مواد قانون لبت عشتار موضوع الضرائب(51).
وخلاصة الموضوع أن القوانين في بلاد الرافدين السابقة لقانون حمورابي قد نظمت العلاقة بين ملاك الأراضي والمستأجرين لها، كما نظمت العلاقة بين المنتفعين بهذه الأراضي وبين من يستأجرونهم من رعاة ومزارعين، وفي الغالب كان القانون يحمي صغار المزارعين، وإذا أخرج مستأجر من الأرض قبل انتهاء مدة العقد كان ملزماً بدفع تعويض له(52).
ظهور قانون حمورابي:
حكم حمورابي ما بين 1792-1750ق.م، وهو من أهم وأشهر ملوك بابل، فوضع تشريعًا اعتبره الباحثون من أنضج القوانين والتشريعات في بلاد الرافدين، فكان له تأثير قوي ومباشر على الحياة القانونية لشعوب الجوار مثل العيلاميين والحيثيين، وقد دون باللغة الأكادية، ومن المعتقد أنه أصدره خلال المدة الأخيرة من حكمه، بعد أن وطد أواصر حكمه بقضائه على أعداء دولته من العيلاميين، وهذا ما هيأ ظروف الاستقرار السياسي والحضاري(1).
تحتوي تشريعات حمورابي على قرابة 282 مادة قانونية، إضافة إلى مقدمة وخاتمة نقشت كلها على مسلة من حجر الديوريت الأسود، يصل ارتفاع المسلة إلى 225م، وقطرها 60سم، مؤلفة من 44حقلاً لم يبق منها سوى 35000 (2)، وقد عالجت فقرات نصوص حمورابي قضايا متنوعة منها:
قسم يتعلق بالتقاضي، وقسم يتعلق بالأحوال الشخصية وقسم بالأموال والضرائب وقضايا الرقيق، وعلى الرغم من أن قوانين حمورابي قد وصلتنا كاملة؛ فإنه لم يعالج جميع القضايا المطروحة آنذاك، وربما أنه اختار القضايا التي تحتاج إلى تثبيت فقط(3).
لقد كان قانون حمورابي ينقح ويجمد مواد القوانين السابقة له بعد حذف تلك المواد التي لم تعد منسجمة ومصلحة الدولة والسياسة التشريعية فيها، وأضاف إلى قانونه مواد غير موجودة في القوانين السابقة لضرورات المصلحة العامة آنذاك، وهناك من يرى في قانون حمورابي مأثرة تاريخية وإنسانية خالدة في حضارة العالم(4).
ثانيًا: تأثير قانون حمورابي على الجانبين الاقتصادي والاجتماعي:
لقد اشتملت نصوص قانون حمورابي على قواعد وأصول لتنظيم الحياة الاقتصادية لأن الاقتصاد هو عصب الحياة في بلاد الرافدين، وقد شملت مواد عقابية تخص السرقات والإقطاعيات والأراضي المخصصة للعساكر، كما بين العقود للمزارع والقروض المرهونة، وعقاب كل من يسبب ضرر لحقل شخص آخر سواء كان بقصد أو بغيره.
ووجه وأعطى تعليمات لتحويل الأراضي البور إلى أراضي مشجرة ومثمرة أو إلى حقول حنطة، وحدد وسيلة لعقاب الدائن الذي يتعسف في سلطته تجاه المدين، ووسائل عقابية لسرقة الأدوات الزراعية وشراء الرقيق ومسؤلية حارس الحيوان(5)، هذه بعض الأحكام والعقوبات التي نظر فيها حمورابي على صعيد الجانب الاقتصادي.
فوفقًا للمواد (42-43) فقد نظم حمورابي أمور الزراعة فيذكر "إذا استأجر مزارع حقلًا ليزرعه حباً ولم يزرعه، أدى ما يعادل ما أنتجه حقل جاره، وأما إذا شاركه فيه وأهمل بعضه اعتبر الجزء المهمل من نصيبه".
ووفقًا لما جاء في المادة (61) من اقتلع شجرة بستان جاره دون موافقته غُرم نصف منة من الفضة(6).
أما بخصوص الجانب الاجتماعي فقد كان لقانون حمورابي أسس وقواعد تنظم الحياة الاجتماعية وبدراسة مواد القانون يتبين أن حمورابي وضع قواعد وأحكام للأسرة تشتمل على هدايا الخطبة وعلى الزواج بألا يتزوج الرجل بإمرأة أخرى دون وجود أسباب مشروعة لذلك، وقد حددها من خلال نصوص قانونه وعقوبة لجريمة الاغتصاب، كما حدد عقوبات وأحكام للتبني والإرث وعقوق الوالدين وطاعتهما(7).
ثالثاً: التشريعات الأشورية وأثرها على الجانبين الاقتصادي والاجتماعي:
استمرت تشريعات حمورابي في التطبيق مدة طويلة على الرغم من بعض التعديلات، فعندما توفي حامورابي ترك ابنه سمسو إيلونا الذي بعث برسالة إلى أحد كبار موظفيه يعلمه أن والده قد مات، وأنه عازم على تنظيم قوانين الجباية، وبطلان عقود الدين لفئات الجند والميشكينيوم، وإصدار عفو عام في كل البلاد (8)، كما أصدر حفيد سمسو المدعو عمي صادوقا 1646-1626ق.م مرسومًا يقضي برفع الضرائب، ولعل السبب في ذلك هو دفع الفوضى التي حدثت بعد وفاة حمورابي(9).
وقد وجدت رُقم قانونية نسبت للملك نبوخذ نصر تحت 605-526ق.م، عالجت بعض الجرائم المتعلقة بالقتل، وأصدرت عقوبات قصوى على المجرمين تصل إلى قطع الرأس (10).
القوانين الأشورية:
لم يترك الأشوريون إلا القليل من القوانين، وهو ما لا يتناسب مع شهرتهم، وربما كان ذلك لانهماك الحكام والملوك الأشوريون بالأعمال العمرانية والعسكرية، في حين يرى بعض الباحثين أن هذا النقص لأن إمبراطوريتهم التي كانوا يحكمونها واسعة الأطراف تضم شعوب متعددة، غير أنه يوجد رأي ثالث يرى بأنهم اعتمدوا على القوانين السابقة، خاصة قانون حامورابي (11)، وهو دليل على استمرارية تطبيق قانون حمورابي خلال القرون اللاحقة لحكمه.
دونت هذه القوانين في فترات تاريخية متعاقبة بعضها سبق قانون حمورابي أي إنها ترجع للعصر الأشوري القديم حين أرخت في حدود 1500ق.م، وظهرت مجموعة ثانية ترجع إلى 1500-1000ق.م أي العصر الأشوري الوسيط، أما المجموعة الثالثة فتؤرخ 750-700ق،م عالجت قضايا مختلفة مثل جرائم السرقة وجرائم النساء وأحكام السرقة والقتل العمد وتوزيع الأرث(12).
وقد تشابهت القوانين الأشورية مع القوانين البابلية خاصة قانون حمورابي في تطبيق بعض العقوبات على الرغم من أنها كانت أقصى القوانين في بلاد الرافدين، فكثير من الذنوب كانت عقوبتها الإعدام، أو تشويه الأعضاء مثل بتر الأصبع أو الأنف أو الأذنين وغيرها أو الجلد بالسياط (13)، ثم إنه توجد بعض العقوبات الصارمة التي طبقت في القوانين الأشورية وفي قانون حمورابي على حد سواء منها: حق المحارب في استرداد زوجته إذا عاد من الأسر، فالقانون الأشوري ينص على أن تنتظر زوجها المحارب الغائب خمس سنوات وفق المادة (36)، وإذا كانت دون أولاد وعلمت أن زوجها مأسور، فعليها أن تنتظره عامين فقط ، وكفلت للزوجة ما تتعيش به وفق المادة(45)(14).
وفي حالة اتهام المرأة بالفاحشة دون وجود شهود تلجأ التشريعات البابلية والأشورية إلى مبدأ التحكيم الإلهي أي الالتجاء إلى الاختبار النهري(15)، غير أن القانون الأشوري انفرد عن غيره بمنع ارتداء الحجاب عن الإماء والعاهرات؛ لأنه من سمات نساء الطبقة العُليا، فإذا خالفن ذلك عوقبن بتجريدهن من الثياب وصب القار على رؤوسهن(16).
(1) محمد العيهار، المرجع السابق، ص 56.
(2) المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
(3) عامر سليمان ، المرجع السابق، ص 202.
(4) عباس العبودي، مرجع سابق، ص32.
(5) محمد العيهار، المرجع السابق، ص56.
(6) عبد العزيز صالح، المرجع السابق ، ص199.
(7) عثمان عبد الله محمد بن ناجم، المرجع السابق، ص 63-64.
(8) شعيب أحمد الحمداني، قانون حمورابي، دار الحكمة، بغداد، 1977م، ص249.
(9) محمد العيهار، المرجع السابق، ص151.
(10) المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
(11) سامي سعيد الأحمد وآخرون، حضارة العراق، ج2، د.د، بغداد، 1985م، ص 81-82.
(12) محمد العيهار، المرجع السابق، ص56 .
(13) سليم سعيدي، المرجع السابق، ص 42-43.
(14) محمد بيومي مهران، المرجع السابق، ص 469.
(15) عبد العزيز صالح، المرجع السابق، ص505.
(16) سليم السعيدي، المرجع السابق، ص43.
(1) هاشم الحافظ ، تاريخ القانون ، دار الحرية للطباعة ، بغداد ، 1980م ، ص41 .
(2) عباس العبودي،تاريخ القانون، مديرية دار الكتب للطباعة والنشر والتوزيع، الموصل، 1988م، ص85.
(3) عامر سليمان، القانون في العراق القديم ، ط2 ، دار الكتب للطباعة والنشر، الموصل ، 1987، ص12.
(4) هاشم الحافظ، المرجع السابق ، ص91 .
(5) عباس العبودي، المرجع السابق ص86 .
(6) صبيح مسكوني، تاريخ القانون العراقي القديم ، ط1 ،مطبعة شفيق، بغداد ، 1971م ، ص93 .
(7) عبد الرضا الطحان، الفكر السياسي في العراق القديم ، النهضة العربية، بيروت ، 1981م ، ص542 .
(8) عباس العبودي ، المرجع السابق ، ص94؛ هاشم الحافظ، المرجع السابق ، ص41.
(9) أحمد زيدان خلف صالح الحديدي، علاقات بلاد أشور مع الممالك الحيثة الحديثة في شمال سوريا، (911-612 ق.م) أطروحة دكتوراه غير منشورة، جامعة الموصل، 2005م، ص106.
(10) محمد العيهار، المرجع السابق، ص15.
(11) ألبيرشت جونز وآخرون، شريعة حمورابي وأصل التشريع في الشرق القديم، ترجمة : أسامة سراس، دار علاء الدين، دمشق، ط2، 1993م، ص10.
(12) منذر الفضل، تاريخ القانون، مكتبة دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان، ط2، 1998م، ص 70-72.
(13) صلاح حسن مطرود، ملامح من فكرة القانون الطبيعي في حضارة العراق القديم، مجلة العلوم السياسية، كلية العلوم السياسية ، جامعة النهرين، د.ع، د.ت، ص5.
(14) محمد العيهار، المرجع السابق، ص14.
(15) طه باقر، الشرائع والتنظيمات في حضارات وادي الرافدين، مجلة البحث العلمي، مج27، 1976م، ص111.
(16) محمد العيهار، المرجع السابق، ص 48.
(17) صلاح حسن مطرود، المرجع السابق، ص75.
(18) المرجع نفسه ، ص 49.
(19) ول إيريل ديورانت، قصة الحضارة، نشأة الحضارة الشرق الأدنى، ج2، دار الجيل ، بيروت، 1988م، ص17.
(20) عثمان عبدالله محمد بن ناجم، دراسة مقارنة بين قانون حمورابي وقانون اللوحات الإثنى عشر، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة التحدي، سرت، 2008م، ص41.
(21) محمد أبو المحاسن عصفور، معالم تاريخ الشرق الأدنى القديم من أقدم العصور إلى مجيء الإسكندر، دار النهضة العربية، بيروت، 1984م، ص360.
(22) عباس العبودي، المرجع السابق ، ص96 .
(23 )هاشم الحافظ، المرجع السابق ، ص41 .
(24) عباس العبودي، المرجع السابق ، ص86 .
(25) المرجع نفسه ، ص97 .
(26) هاشم الحافظ، المرجع السابق ، ص41 .
(27) محمد العيهار، المرجع السابق ، ص 30.
(28) عثمان عبد الله محمد بن ناجم، المرجع السابق، ص 41.
(29) صلاح حسن مطرود، المرجع السابق، ص 76.
(30) محمد العيهار، المرجع السابق ، ص 30.
(31) عثمان عبد الله محمد بن ناجم، المرجع السابق، ص 42.
(32) عبد العزيز صالح، المرجع السابق ص 197
(33) أحمد أمين سليم، المرجع السابق، ص ص243-245.
(34) عثمان عبد الله محمد بن ناجم، المرجع السابق، ص 44.
(35) طه باقر، قانون لبت عشتار، قانون مملكة أشنونا، وزارة الثقافة والإعلام، بغداد، 1987م، ص ص 31-35.
(36) محمد العيهار، المرجع السابق، ص50.
(37) عثمان عبد الله محمد بن ناجم، المرجع السابق، ص 44.
(38) هاشم الحافظ، المرجع السابق ، ص41-42 .
(39) صبيح مسكوني، المرجع السابق ، ص97-98.
(40) عبد الملك سلاطنية وآخرون، تاريخ النظم في الحضارات القديمة، دار الهدى للطباعة والنشر، عين مليلة، 2007م، ص76.
(41) عبد العزيز صالح، الشرق الأدنى القديم، ، مكتبة الإنجلو المصرية، القاهرة، 2012، ص497.
(42) سليم سعيدي، المرجع السابق، ص 20-21.
(43) صلاح حسن مطرود، المرجع السابق، ص 76.
(44) عثمان عبد الله محمد بن ناجم، المرجع السابق، ص 44.
(45) عامر سليمان، العراق في التاريخ، موجز في التاريخ الحضاري، دار الكتب للطباعة والنشر، الموصل، 1993، ص197.
(46) عثمان عبد الله محمد بن ناجم، المرجع السابق، ص 46.
(47) محمد العيهار، المرجع السابق، ص51.
(48) صلاح حسن مطرود، المرجع السابق، ص76.
(49) صبيح مسكوني، المرجع السابق، ص99.
(50) عبد العزيز صالح، المرجع السابق ، ص199.
(51) محمد العيهار، المرجع السابق، ص51.
(52) محمد أبو الحاسن عصفور، المرجع السابق، ص230.
(1) أحمد سليم أمين، دراسات في تاريخ الشرق الأدنى القديم، دار النهضة العربية، بيروت، لبنان، 1989، ص213.
(2) محمود أهمز، في تاريخ الشرق الأدنى القديم، دار النهضة العربية، بيروت، لبنان ، 2010، ص14.
(3) أحمد سليم أمين، المرجع السابق، ص213.
(4) محمد العيهار، إرهاصات التشريع في العراق القديم، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة وهران ، الجزائر، 2014م
(5) محمد أبو المحاسن عصفور، معالم حضارات الشرق الأدنى القديم، دار النهضة العربية، بيروت، لبنان، 1987م، ص 223.
(6) محمد بن مكرم ابن منظور، لسان العرب، ج11، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط3، 1999م، ص327.
(7) نادية فضيل، دروس في مدخل للعلوم القانونية، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1999م، ص5.
(8) ف. فون. زودن، مدخل إلى حضارات الشرق القديم، ترجمة: فاروق إسماعيل، دار المدى، دمشق، 2003م، ص 149-150
(9) زيدان كفافي، أصل الحضارات الأولى، مؤسسة حمادة للدراسات الجامعية، أربد، 2005م، ص256.
(10)جمال محمود عبد العزيز، صوفي حسن أبو طالب، تاريخ النظم القانونية والاجتماعية، مركز جامعة القاهرة، القاهرة، 1998م، ص146.
(11) سليم سعيدي، القانون والأحوال الشخصية في كل من العراق ومصر(2050-332ق.م)، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة منتوري، قسنطينة، 2010م، ص7.
(12) جمال محمود عبد العزيز، صوفي حسن أبو طالب، المرجع السابق، ص 146-147.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.