لعل الأثر الاجتماعي لرحلة الحج هو الأبرز بين الآثار المختلفة والأحوال العامة للمجتمع المدني، فالمدينة تجذب إليها الحجاج والزائرين للبقاء فيها مدة كبيرة؛ ليحصل نوع من التمازج الاجتماعي الذي يؤثر في الطرفين، فقد يبقى الحجاج في المدينة المنورة شهورًا حتى تتم لهم مناسك الحج في مكة المكرمة، أو التأهب للسفر إلى بلادهم بعد أداء نسكهم، وقد تمتد الإقامة فتكون دائمة، وقد بقي عدد من الرحالة شهورًا بالمدينة؛ فقد ذكر العياشي أنه مكث بالمدينة سبعة أشهر ونصف الشهر أثر فيها وتأثر بها، إضافة إلى أن الولاتي مكث بالمدينة أربعة أشهر مارس فيها مهنة التدريس بمسجدها الشريف.
وقد تقدم كيف كان النسيج البشري للمدينة المنورة مختلط الأجناس، فمنهم الترك والمغاربة والنجديون والمصريون والهنود، إلخ، وقد أثر ذلك في عادات أهلها وتقاليدهم لما حدث من اختلاط بين تلك الشعوب والسكان المحليين أدى إلى تبلورها، وأصبحت الفوارق بينها بسيطة تدريجيًا، وصار الجميع يتميزون بتلك العادات والتقاليد، ومنها:
الاحتفال بركب الحجيج
لقد اعتاد أهل المدينة في السابق استقبال الأركاب في موسم الحج والزيارة بالحب والترحيب، وهذا ما ذكره النابلسي في رحلته، وأنهم كانوا ينصبون خيامهم على طرف جبل سلع لانتظار وصولهم، ولا يقتصر هذا الاستقبال على عامة الناس، بل يكون من جملتهم شيخ الحرم والأغوات.
وقبل رحيل الركب كان أهالي المدينة المنورة يغلقون أبواب المسجد النبوي ليلًا، لا سيما في الليالي الثلاث التي تسبق رحيل ركب الحج، ليتمكن الجميع من المكوث فيه أكبر وقت ممكن، فيذكر العياشي أن الركب المصري والشامي تعوّد ليلة رحيله أن يجتمع أمراؤه وكبيرو أهل المدينة والأغوات في صحن المسجد ليلًا، بعد أن توقد شموعه، وينتظم الناس على هيئة حلق، ينشدون المدائح النبوية.
من احتفالات أهل المدينة المصاحبةِ لركب الحاج الاحتفالُ بالمحمل
المحمل هو القافلة الكبيرة المحملة بالحجاج والأزواد والبضائع والخيرات والصدقات، يتقدمها جمل عظيم عليه المحمل، وهو كالهودج مصنوع من الخشب، ومزين بأحلى الزينة، ويقود هذا المحملَ أمير أو قائد عسكري، وهذا المحمل له تقاليد وأعراف؛ فإذا وصل إلى المدينة قوبل بالاحتفالات فتطلق المدافع، ويستقبله محافظ المدينة وشيخ الحرم والأعيان، وتعزف الموسيقى، ويزف إلى أن يصل إلى مكانه.
من الاحتفالات التي كانت بالمدينة في العهد العثماني التي شارك فيها الحجيجُ والزوارُ أهالي المدينة الاحتفال بكنس المسجد النبوي والحجرة الشريفة إلى الحجرة المطهرة، فيرفعون البسط المفروشة، لتحل محلها الحصر، ثم يصعد شيخ الحرم مع جماعة الطواشية وقاضي المدينة إلى سطح الحرم الشريف، ثم يبدؤون بكنس السطح والقبة والحجرة.
شارك الحجاج والزوار أهل المدينة المنورة قيامهم وصيامهم في شهر رمضان المبارك، فقد اعتادوا على الإفطار في المسجد النبوي طيلة الشهر الفضيل، وهذه عادة أهل المدينة وعادة الزوار أيضًا، لكن أتوقع أن الزوار أحرصُ عليها، أو هم من ابتدؤوها؛ لأن الزائر يرتبط بالمسجد النبوي كثيرًا، لا سيما في شهر رمضان المبارك.
ثم صارت هذه عادة أهل المدينة المنورة والنازل فيها، ففي هذه الأيام المباركة يصبح الحرم النبوي خلية نحل من كثرة الدروس وتلاوة القرآن الكريم، وعندما يحين وقت الإفطار يجتمعون في المسجد النبوي بعد أذان المغرب، ويتناولون فطورًا خفيفًا، يتكون من التمور وبعضٍ من الزيتون والفطير، ثم يصلون المغرب، ويذهبون إلى بيوتهم ليتناولوا الفطور الكامل، وبعدها يحضرون إلى المسجد لصلاة العشاء وصلاة التراويح.
بعد انتهاء شهر رمضان المبارك يحتفل المسلمون في المدينة المنورة بعيد الفطر السعيد؛ فيكتظ المسجد النبوي الشريف بالناس لأداء صلاة العيد، ثم الزيارة، ثم يتزاور الأهل والأقارب للتهنئة بالعيد، ويقدم أصحاب البيوت للزائرين شتى أنواع الحلويات والشرابات والسكر وكثيرًا من المأكولات والمشروبات.
تأثر الأطعمة والأشربة في المجتمع المدني بموسم الحج
أما الأطعمة والأشربة في المجتمع المدني فقد تأثرت بموسم الحج؛ فقد تنوعت المأكولات بتنوع الأجناس والجاليات التي تقطنها، فنجد المأكولات التركية والمغربية والإفريقية والهندية والمصرية والإشمية والبخارية والأفغانية والجاوية، وغيرها.
وبسبب الوافدين على المدينة من الحجيج، كثير من الناس لا يستلذ إلا بما يعرفه من الأطعمة، وما ساعد على انتشار الأطعمة المختلفة أن مواد الطعام وآلاته كانت بسيطة ومتوافرة بالمدينة المنورة، فيأتي الحجاج عند زيارتهم المدينة المنورة، ويطبخون ما اعتادوه، ثم ينتشر.
ومن أطعمة المدينة المنورة التي انتقلت إليها عبر الحجاج (البف)، ويصنع من العجين الخفيف المحشو باللحم وقطع البيض والتوابل والعريكة.
إن بعض الرحالة نبّه إلى اهتمام المدنيين بالتمور اهتمامًا أساسيًا، فيصف بوركهارت هذا بقوله: «ويشكل التمر مادة غذائية لغالبية الطبقات الفقيرة في المدينة، ويترقب الناس موسم جني التمر بشوق شديد».
ويقدم العرب التمر بطرائق مختلفة، فقد يغلونه مع الحليب، أو يسخنونه مع الزبدة أو العسل.
إن ربة البيت الناجحة تنعش زوجها يوميًا لمدة شهر بأطباق التمر التي أعدت بطرائق مختلفة، ويذكر أن الطبقات الفقيرة لا تأكل شيئًا آخر سواه، وأن التمر هو غذاؤهم الرئيس، وبذكر التأثير المقابل من العادات في الطعام والشراب (نقيع التمر) الذي أخذه المغاربة عن أهل المدينة.
وقد حرص الحجاج والزوار على شراء التمور والعودة بها إلى بلادهم، فراجت تجارة التمر، ما أثر في المقابل على المدنيين بزيادة زراعته والاهتمام بنخله، وإن تجارة البلح فيها أكبر التجارات وأوسعها.
ومن الأدلة على مدى تأثير الحاج المغربي في مجتمع المدينة؛ تداول الأكلات المغربية وأشهرها الكسكسي، واستخدام الشاي الأخضر المضاف إليه النعناع، وهو شراب منتشر في مناطق المغرب العربي.
ومن مظاهر تأثر المجتمع المدني بالحاج المصري أن الأرز والسمك كانت من الأطعمة المفضلة لدى المصريين والحجازيين على حد سواء، كذلك اللحم والسمن والعسل والخبز الذي يعمل ببسط العجين على حديدة دائرية محماة من تحتها ويترك حتى ينضج، واشتهرت أيضًا حلوى (المُشَبك) بين البلدين، فكانت تباع في الأحياء الشعبية في مصر وأحياء المدينة المنورة.
وعرف المدنيون البقسماط من الشوام والمصريين، فقد كانت قافلة الحج المصري والشامي تجلب كميات كبيرة منه للحجاج بعدّه طعامًا لهم في أثناء موسم الحج.
والذي يميز ملابس المجتمع المدني في الدولة العثمانية أن كل جنس من التركيبة السكانية احتفظ نوعًا ما بهوية ملابسه، فالناس لا يلتزمون بارتداء لباس وطني، لا سيما في الشتاء، فأفراد الطبقات الدنيا يتدثرون بأي نوع من الملابس يمكنهم الحصول عليه بثمن زهيد، وليس غريبًا أن ترى رجلًا قد ارتدى ملابس تعود إلى ثلاثة بلدان أو أربعة، فيلبس كالعرب حتى خصره، ويلبس كالعسكر الترك فوق صدره وكتفيه، وقد يلبس زي الأغنياء.
أما ملابس النساء فكان للعامل الديني أثره في لباس المرأة المدنية، فجاء لباسها وفق الضوابط الشرعية رداءً طويلًا، لكنه تأثر بالملابس التي كان يلبسها الحجاج والزوار، فالمرأة إذا أرادت الخروج من المنزل تلبس ما يسمى الغولة والجامة الهندية والملاية السورية والتركية، فلا يظهر منها شيء.
سلمت أناملك
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.