أثر الابتلاء في نفسك

إن الابتلاءات التي يمر بها الإنسان كفيلة بأن تغير نظرته للحياة، وأن يرى الدنيا على حقيقتها، وأن يرى الناس كلٌّ على طبيعته دون تزييف أو تجميل، فعامل النضج والوعي كفيلان بتغيير كل شيء حولك.

فحين يُصاب المرء بخسارة كبيرة، كمرض شديد الخطر أو فقد عزيز، فهنا تتعرى له الدنيا أمامه، فيشاهد حقيقة تجاعيدها بعد أن يزول كل ما كانت تتجمَّل به من تجميل زائف. فهنا تكون لحظات التأمل بعمق بفعل الصدمة، ليدرك أن السعادة الحقيقية ليست في الماديات أو اللذَّات المؤقتة، والكَيِّس من يستوعب ذلك، وتتغير أولوياته، ويدرك مدى تفاهة الدنيا، وأن يتعقَّل في غاياته، وألا يجعل الأماني وطول الأمل تنسيه الفجأة، فالعاقل من فطن وتعلم من تجارب الآخرين، وعلم أنه ليس ببعيد عن الابتلاء أو بمنأى عمَّا يصيب الآخرين.

لذا فإن ابتلاءات الحياة تمنح الفرد منظورًا جديدًا للحياة، يكون في الغالب أكثر عمقًا وواقعية، نتيجة مواجهته لمواقف متنوعة، قد تكون سعيدة أو مؤلمة. هذه الابتلاءات تُجرِّده من الأوهام والأحلام والتوقعات غير الواقعية التي ربما كان يحملها عن العالم والناس بصورة مثالية ومغايرة للواقع الذي نعيشه، أضف إلى هذا أثر الابتلاء في نظرتك للحياة بصورة أعمق، فتبدأ بتقبُّلها كما هي، بكل ما فيها من جمال وقسوة، دون أن تحاول تزيينها أو الهروب منها إلى أحلام وردية تُصدم في نهايتها. وهذا ما يظهر النضج العاطفي لعقولنا بعد التجربة، فيجعل الفرد قادرًا على تمييز النيات الحقيقية للآخرين، بعيدًا عن الأقنعة التي قد يرتدونها، فثقل الابتلاء يجعلك ترى ما وراء السطح، ويكسبك المرونة والقوة في مواجهة تحديات الحياة، وأن تتقبلها كما هي، وليس كما كنت تتمنَّاها أن تكون. لذا، فمن أقسى الابتلاءات التي يمكن أن يمر بها إنسان، هي ابتلاء الفقد.

فمثل هذا الابتلاء لا يترك الإنسان كما كان، بل يعيد تكوين روحه ورؤيته للحياة من جذورها، ويعلِّمه دروسًا عميقة عن الصبر، والقوة الداخلية، وقبل كل شيء، عن طبيعة الزمن والعلاقات البشرية التي قد تبدو أو تتوهَّم أنها دائمة، لكنها في الحقيقة مهما طالت وتعمقت جذورها، فهي في النهاية مؤقتة.. وأن لك نصيبًا من التعايش مع وحدتك، حتى لو كان حولك الآلاف من البشر، فمهما حاولت أن تملأ فراغ نفسك بثقافة التحايل والانشغال الزائف، فكلها صنيعة ثقافة الوحدة حتى تستطيع أن تتنفس الحياة بشكلها الجديد فيما تبقى لك من حياتك؛ لأن الوحدة ليست مجرد تجربة لحالة عابرة فقط، بل تصبح بيئة تعايش كاملة، لها قواعدها وعاداتها الخاصة.

وعندما تعيشها مدة طويلة، سوف تبدأ في فهم ثقافتها، سواء في طريقة التفكير، أو إحساسك ومشاعرك، أو حتى في طريقة التعامل مع الذات والعالم من حولك.. فقد تكتشف فيها جوانب من نفسك لم تكن تعرفها، كالقدرة على التحمل والتأمل، لكنها قد تحمل أيضًا شعورًا بالعزلة والألم يصعب تفسيره لمن لم يعشه.

لذا فإن مشاعرنا ليست نتاج جينات أو بيئة بمفردها، بل هي نتاج تفاعل ديناميكي بين الاثنين؛ ليظل السلوك الإنساني متغيرًا ومتأثرًا بفعل وأثر الابتلاء، فينعكس هذا التعقيد، لتكتشف تباينًا كبيرًا في ردود أفعالك التي يصنعها لك الفقد ومعايشة الوحدة.

لذا فمحاولة الخروج منهما ليست بالأمر اليسير، بل هي عملية مستمرة في مجابهة نفسك، أشبه بمن يزرع بذرة ويتعهد برعايتها، والسر هنا يكمن في الصبر والوعي بأن الطاقة قابلة للتغيير، وأن من يمتلك زمام هذا التغيير هو أنت.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

الوحدة ليست مجرد تجربة لحالة
عابرة فقد بل تصبح بيئة تعابش كاملة
لها قواعدها وعاداتها الخاصة
هذة الكلمات الرائعة لخصت
معنى شعور الوحدة الحقيقى
داخل كل منا بصدق .
وما منا مابه أوجاع؟!
تحياتى وتقديرى لك صح قلمك
وعظيمة هى كلماتك 🙏💜
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

الصديقة العزيزة سعاد
يسعدنا مروركم الجميل على صفحتنا البسيطه وتزيدنا سعادة كلماتكم الطيبة لنا والتى نعتزبها ونقدرها.
خالص تحياتي وتقديري لكم.
🙏❤️🌹❤️🌹🙏
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.