أبواب العالم الخفي.. الطقس رقم 99 ج2

 نبدأ من حيث انتهينا في الجزء السابق..

.............

خرج آدم من البيت، لكن الشارع لم يعد كما تركه. الضوء مختلف، الهواء مشبع بذرات لا تنتمي لهذا الكوكب. لم تكن الأرض تهتز، لكنها تتنفس، كأنها استيقظت هي الأخرى بعد دمج الكيان. عينيه رأت كل شيء بلون جديد، كأن البصيرة تفوقت على البصر. مشى دون أن يعرف إلى أين، لكنه كان يعلم أن الطريق يعرفه.

عند أول زاوية، وجد امرأة ترتدي عباءة رمادية، لا يظهر من وجهها شيء، فقط عينان من زجاج أسود تعكسان صورته. نظرت إليه دون أن تتكلم، ثم مدت يدها، فيها تميمة خشبية عليها نفس الرمز الذي وُلد على كفه منذ الطقس الأول. أخدها دون سؤال. وما أن لمست يده حتى اختفى كل شيء حوله. لم تعد هناك شوارع ولا ليل. فقط هو، ومائدة حجرية وسط فراغ أبيض. وعلى المائدة… كتاب جديد.

فتح الصفحة الأولى، لم يجد كلمات، بل صورًا. صور له، في أزمنة لم يعشها، بملابس لم يعرفها، وهو يقف وسط كائنات لها وجوه بشرية لكن بأعينٍ مطفأة. كان يقودهم. وكأنها نبوءة أو تحذير، أو ذاكرة تعود من مستقبل لم يحدث بعد. ثم ظهر رمز واحد أسفل الصفحة:

الطقس التالي لا يتم إلا في البُعد السفلي.

لم يكن يعلم أين يكون هذا البعد. لكنه شعر بنداء داخلي يشده نحو الجنوب. هاتفه رنَّ فجأة، رغم أنه لم يكن لديه شبكة. على الشاشة: «إحداثيات: الطريق 66 – المقبرة السادسة». ضغط موافق، فتوقف كل شيء. وجد نفسه واقفًا وسط صحراء، الرمال حمراء كأنها صخور منصهرة، والريح تهمس بأسماء يعرفها ولم يسمعها من قبل. أمامه بوابة حديدية مكسورة نصفها مدفون، ونصفها يحمل ختمًا يشبه عينًا محفورة في الدخان.

دخل المقبرة.

السكون فيها ليس صمتًا، بل اتفاق. كأن المكان اختار ألا يتنفس. العتمة لا تتراجع، بل تقترب. وكلما سار خطوة، كان يسمع خطوات مقابلة… بالإيقاع نفسه. لم يكن وحيدًا. شعر بأن هناك كائنًا يخطو معه، يراقب أنفاسه، يقيس مدى خوفه.

ثم وصل إلى القبر رقم 6.

لم يكن قبرًا عاديًا، بل حُجرة محفورة تحت الأرض، بابها من حجر أسود لا ينعكس عليه الضوء. لمسه، ففتح ببطء. وخرج منه هواء كأنما ظل محبوسًا منذ آلاف السنين. كان الظلام في الداخل حيًا… يزحف… يتحرك… يختبر القادم.

دخل.

في الداخل، جلس رجل عجوز على كرسي من عظام. لا يتحرك، لا يتنفس، لكنه ليس ميتًا. خلفه مرآة مشققة تعكس صورة آدم بطريقة غريبة… في كل مرآة، نسخة مختلفة منه: واحد منه يبتسم، وآخر يصرخ، وثالث عيناه تنزف دمًا، ورابع… بلا وجه.

قال الرجل العجوز بصوت لم يتحرك فمه فيه:

«البعد السفلي ليس مكانًا… إنه نسخة منك… خالية من الروح».

اقترب آدم، لكن ظلَّه تأخر عنه.

الرجل مدَّ يده ببطء، ثم غرس إصبعه في الأرض، وخرج منها لهب أسود، تشكل منه شكل بشري يشبه آدم تمامًا، لكن بعينين فارغتين.

قال العجوز:

«هذا هو كيانك الخامس… كيان الانعكاس. إذا لم تُدمجه… سيأخذ مكانك في البُعد العلوي».

فهم آدم… أن كل ما فعله لم يكن سوى نصف الطريق. وأن كل طقس، هو مواجهة لجزء من ذاته، حتى يصل للحظة الأخيرة… حين يختار.

اقترب من كيان الانعكاس.

رفع يده… أضاء الرمز.

لكن الكيان لم يتحرك.

بل همس:

«لن أُدمج. سآخذك مكاني».

وهاجمه.

لكن آدم لم يقاوم.

بل قال:

«خذني إن استطعت أن تتحملني… بكل ظلامي، وبكل نوري».

وفجأة… الكيان صرخ.

لم يكن صراخ خوف… بل رفض. النور بداخله بدأ يتكسر.

قال آدم:

«أنا لا أنكرك… بل أعترف بك… لكنك جزء، ولست الكل».

واندمج الكيان.

اختفى العجوز.

وظهرت جملة واحدة على الجدار:

«تم دمج الكيان الخامس.

البوابة: 77%.

المتبقي: 2».

ولم يعد آدم كما كان.

 خرج آدم من المقبرة السادسة، لكن المقبرة لم تخرج منه. كانت بداخله، تسير معه، تُعيد تشكيل نظرته إلى الواقع. لم يعد يثق بعينيه، فكل ما حوله قد يكون انعكاسًا أو طيفًا أو طقسًا في طور التكوين. مشى في صمت، لم يعد يعرف الليل من النهار، كأن العالم طواه في طيِّه، ولم يبقَ إلا ما هو بين بين.

في الطريق 66، حيث الإحداثيات الأولى، تلقى رسالة جديدة. لم تأتِ عبر الهاتف، بل كُتبت فوق زجاج السيارة من الداخل… بخط يده هو.

«الكيان السادس… هو الكلمة التي لم تُنطق أبدًا.

هو السر الذي دفنته في طفولتك، والباب الذي لا تجرؤ على فتحه».

تذكّر صوتًا قديمًا… صراخًا، بكاءً مكتومًا، لحظة قفل باب غرفة وهو في السابعة من عمره. تلك الليلة التي ظنها نسيها، لكنها الآن تنهض من سباتها، وتمسك قلبه بقسوة. انعطف إلى الشارع الخلفي من عقله… البيت القديم في حلوان.

كان متهدمًا، كأن أحدهم حاول محو ذكرياته بالحجر والتراب. لكنه دخل، مشى فوق الزجاج المكسور والرماد، حتى وجد بابًا مغلقًا خلف المطبخ. لم يكن له وجود من قبل… لكن آدم يعرفه. يعرفه أكثر مما يعرف نفسه.

فتح الباب.

لم تكن غرفة.

كانت لُبَّ ذاكرته.

كل ما أنكره… كُتب هنا. على الجدران، على الأرض، في الهواء. صور قديمة، صرخات دفينة، نظرات خائفة، وأصوات لشخص ما يهدده، بصوت منخفض، متكرر… لم يكن الغريب.

كان هو.

الطفل فيه، الذي تركه منذ زمن.

جلس على الأرض. الطفل أمامه، الملامح نفسها، الجرح نفسه في الحاجب، لكنه بلا صوت. فقط نظرة عتب، نظرة وجع.

قال آدم:

«لم أنسك… أنا فقط لم أتحمَّل الألم».

مد الطفل يده. فيها قطعة من مرايا مكسورة.

قال آدم وهو يلمسها:

«أنت الكيان السادس… الصمت».

وفور أن لمس الزجاج… نزف إصبعه.

لكن الدم لم يسقط على الأرض. تشكَّل منه ظل، ثم جسد، ثم كيان… له هيئة الطفل نفسها، لكن بصوت امرأة عجوز، قال:

«حين صمتَّ، تكوَّنت أنا».

فهم آدم… أن الكيان السادس لم يكن شبحًا من بعد آخر، بل جرحًا لم يُعالج. جزء صامت من روحه لم يجد من يعترف به.

اقترب، احتضن الطفل… والكيان اهتز.

ثم اختفى.

وظهرت كتابة داخل الغرفة:

«تم دمج الكيان السادس.

البوابة: 93%.

المتبقي: 1».

لكن هذه المرة، لم يعد يستطيع الوقوف.

سقط على الأرض.

بكاه الجدار.

استفاق في مكان غريب.

غرفة بيضاء بالكامل، لا سقف لها، لا جدران، فقط خطوط نورانية ترسم حدودًا غير مرئية. في منتصفها… تمثال له، من زجاج نقي، ينبض.

في داخله… ظل يتحرك.

الكيان السابع.

لم يكن شرًا، لم يكن ظلامًا.

بل كان النور نفسه… إذا فسد.

الجانب المضاد… الأنا الروحانية المتضخِّمة، التي تستعمل النور كدرع، وتخفي خلفه الكبرياء، العُجب، السيطرة.

سمع صوته بوضوح، لكن ليس بأذنه، بل في خلاياه:

«أنا ما تظنه تطوُّرًا… لكنني الغرور المُقنَّع بالنور».

قال آدم بصوت خافت:

«كل ما عشته… قد يصل بي إليك».

رد الكيان:

«وقد وصلت».

بدأ التمثال يتشقق.

كل شقٍّ فيه يُخرج ضوءًا باهتًا، رماديًا، ليس نقيًا.

كان على آدم أن يعترف:

«أنا أردت القوة… أردت أن أكون مميزًا… أردت أن أُفتح، لا لأني مستعد… بل لأني أردت أن أُرى».

مع كل اعتراف، انكسر جزء من التمثال.

وعندما وصل إلى الاعتراف الأخير:

«أنا… كنت أبحث عن معنى، وخلطته بالسيطرة».

تحطَّم التمثال بالكامل.

وظهر الكيان الأخير…

نسخة منه… تبتسم، لكنها فارغة العينين.

قال:

«أنت الآن كامل… لكن الكامل يُمحى ليبدأ من جديد».

اقترب منه، مدَّ يده، ووضع إصبعه على جبهة آدم.

وظهر الرمز الأخير.

دائرة داخلها مثلث، داخلها عين مغلقة.

انفتحت العين.

ونطق الصوت الكوني:

«تم دمج الكيان السابع.

البوابة: 100%.

تم الإغلاق المؤقت.

الاختبار القادم: التحوُّل».

اختفى كل شيء.

آدم وجد نفسه في بيته… في القاهرة.

الساعة تشير إلى اللحظة نفسها التي غادر فيها.

لكن داخله… لا يشبه ما كان.

عاد آدم إلى بيته، المفاتيح نفسها، الباب نفسه، السجاد نفسه الذي مشى عليه آلاف المرات. لكنه لم يشعر أنه عاد. بل شعر أنه نزل. ليس من الأعلى، بل من العمق. كأن كيانه كله صار تحت طبقة شفافة من ذاته القديمة، يتنفس من خلالها، لكنه لا ينتمي إليها.

فتح النوافذ، دخل ضوء النهار، لكنه لم يكن دافئًا. بدا مزيفًا. اصطناعيًا. لم يعد يعرف كيف يتفاعل مع العالم. كل شيء فيه أصبح يشبه مرآة، وكل مرآة تعكس آلاف الاحتمالات.

جلس في منتصف الغرفة، وضع الحجر الأسود أمامه، وأغلق عينيه.

بدأ جسده يتقلَّص بداخله، ليس حجمًا… بل شعورًا. كأنه يُسحب نحو قلبه. رأى نفسه طفلًا ثم عجوزًا ثم روحًا تطفو في فراغ أبيض.

ثم… بدأت علامة التحوُّل.

رمز جديد ظهر على جبهته من الداخل، لا في الجلد، بل في الروح:

دائرة داخلها مفتاح، محاطة بـ 3 خطوط متكسِّرة.

لم يرَه… بل شعر به.

ثم سمع الصوت نفسه… لكن هذه المرة، لم يأتِ من الخارج.

بل من ذاته العليا.

«كل ما فعلته… كان لتهيئتك. لم تكن مهمتك إغلاق البوابة فقط… بل أن تتحوَّل أنت إلى بوابة».

صمت…

فهم المعنى.

لم يكن الطقس رقم 99 مجرد حادثة.

بل ختمًا.

أدرك أن كل من سبقه لم يُكمل التحوُّل. كلهم أُغلقوا… لكن لم يتحوَّلوا.

أما هو، فالمسار اختاره.

ليس ليغلق فقط، بل ليكون الحارس التالي.

قام من مكانه.

توجه إلى المرآة.

لكن لم يرَ نفسه.

رأى نسخة أخرى منه… تمشي في صحراء، تُخرج من تحت الرمال رموزًا ضوئية، وتتحدث بلغة لا تُسمع، بل تُفهم.

ثم عاد وجهه.

وعلى جبينه… ظهر الرمز الجديد.

ليس من الضوء.

بل من الظلال المُدمجة.

رنّ الهاتف.

لم يكن هناك رقم.

فقط كلمة:

الطقس رقم: 100.

فابتسم آدم… أول مرة.

وقال في داخله:

«الآن بدأت».

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.