آخر أيام المدينة - حالة

المدينة.. تغيَّر كل شيء بي وحولي بعد سنوات عدة من عقدي الثالث من عمري.. لا أعلم بالتحديد لماذا؟!

أظنه ذلك الإحساس الذي يمر به أي رجل بتقبُّل الصدمات والتفهُّم أنه ليس بالضرورة أن يكون كل شيء على ما يرام.. هو اتفاق ضمني بين الرجال والحياة، بأنها سوف تمنحك أبغض وأسوأ ما فيها لتُخرج منك أقوى وأفضل نسخة منك..

هكذا أرى المعادلة بسنواتي ما بعد الـ35، هكذا أُمنطق الألم وأتقبله لأتعامل معه، هو اتفاق أبرمته مع الحياة منذ سنوات..

ومع ذلك ما زلت لا أصدقها، ولا هي ترحمني..

هي غريزة فطرية بحتة بنا كبشر، وهي أقدم وأقوى غرائزنا «غريزة البقاء» التي قد تُحدد ردَّ فعلك وتفاعلك بلا وعي كامل منك أغلب الأوقات.. وللأسف، كانت جميع بحوث ومجهود الفلاسفة بطول سنوات البشرية على الأرض في محاولة للسمو والتحكُّم بتلك الغريزة من باب أن هذا ما يُميزنا عن باقي المخلوقات، أننا كبشر نمتلك فضيلة الاختيار والتفاعل والتحكُّم!

ولكن ليس اليوم، وبالتأكيد ليس بتلك المدينة، حيث يعيش ملايين البشر، بهذه المدينة التي أعمار شوارعها تتجاوز آلاف السنوات التي عبر منها عشرات الحضارات.. كلها انتهت واندثرت، وبقيت الشوارع فوق رفاتهم، وفوق أعظم ما أنجزوا وتخيَّلوا أنه إرثهم الذي سوف يُخلِّد ذِكرَهم.. ها أنا من الألفية الثانية أُحدثهم وأكتب لهم وأكتب لمن سوف يأتي بعدي، أُؤكد لهم، لا شيء بقي ولا أحد يهتم، والوحيد المُنتصر بهذا الصراع كان الزمن! والشاهد هو تراب هذه المدينة فوقهم وفوقي من بعدهم!

واليوم أرى في تلك الأوقات النادرة بالنسبة لي حين أقرر أن أنزل بالصباح وأتفاعل مع مدينتي.. أرى أعينًا، الكثير من الأعين التي فقدت المحتوى تمامًا، حتى أنني أشكُّ بعض الأحيان إن كان أحدٌ يراني أو يرى أي شخص!

الجميع في سباق لا ينتهي، الجميع في متاهة بلا حدود، والجميع يتقبَّل الأسوأ ولا أحد سوف يُحرّك ساكنًا، والجميع يتقبّل ذلك! الغريب وغير المألوف اليوم أن يُصادفوا شخصًا يفعل الخير، أو يتخذ موقفًا ضد شيء غير إنساني أو غير أخلاقي، والأغرب لي أنه حتى إن وُجد ذلك الشخص واتخذ موقفًا، فلا يتوقَّع أن أحدًا قد يتشجَّع ويُسانده..

هو وحده تمامًا! والعواقب هو الوحيد الذي سوف يتحمّل نتيجتها! ما هذا العبث؟! قد تتساءل؟! والإجابة غاية في البساطة، هي «غريزة البقاء» التي تمَّت برمجة سكان المدينة عليها من أجيال تحت مبادئ غاية في البساطة أيضًا (اصمت وتحرَّك للأمام)..

ومع ذلك! حين قد أجلس في مكان عام مزدحم نسبيًا وأنظر بعين الرفق والإنسان بداخلي لمن حولي، أجد تلك النظرة تُوجَّه لي! وذلك السؤال الذي أعده الأعظم في الألفية الثانية التي نعيش في عشرينيات سنواتها..

ستجد نظرة تأمل قد تصل للتوسُّل تحت سؤال..
هل من الممكن أن تكون غير الباقين؟!

هل ممكن أن لا تكون مصدر ألم ككل من عبَروا من خلالي؟!

هل من الممكن أن تُحبني وتتقبَّلني كما أنا؟! بأخطائي وعيوبي؟!

هل ممكن أن تكون مجرد إنسان معي؟! يسمو فوق المصلحة والخداع والكذب؟!

تلك هي أسئلة أعين أهل مدينتي، الجميع يبحث عن أفضل ما في الآخرين بأمل يائس.. أستطيع أن أراها! والأزمة.. أن الكل يطلب وهو غير مُستعد أن يبدأ بالعطاء أولًا.. الكل يُريد أفضل ما في من حوله بشرط أن يأخذ أولًا، ولإحقاق الحق، هذا رد فعل طبيعي جدًّا خصوصًا لأصحاب القلوب الطيبة مع كثرة الخذلان والصدمات، فأنا شخصيًّا كنت أفكر هكذا بعد كثير من العلاقات التي استهلكتني، بل إنني ذهبت لأبعد من ذلك واخترت عزلة اعتصرت قلبي سنوات إلى أن..

أدركت أن العزلة مريحة ولكنها صعبة، ومع الوقت تزداد صعوبة، فبطبيعة الحال هي عكس فطرتنا البشرية.. نحن كائنات اجتماعية تتفاعل وتنمو بمجموعات ومجتمعات.. ولكن ما العمل مع مجتمع المدينة الذي سبق واستهلك قلوبنا وأرواحنا النقية؟! وما العمل مع تلك الكُتل الخرسانية التي تحبس مشاعرنا؟! تلك الطُّرُق الأسفلتية التي تستهلك بشريتنا؟! وأين الحل في تلك المدينة العجوز صاحبة آلاف السنوات من المعارك والحروب؟!

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.